الإرادة

اسمي ربا وهذه حكايتي: القدر لاعبني الغميضة لكني لم أختبئ

منصة إرادة- مادلين جليس

“شقية ومشاغبة” هكذا كان يصفني كل من عرفني في طفولتي. كنت أركض كأنني أهرب من الزمن، كأنني أدرك، على نحو غامض، أن قدميَّ لن تصمد طويلاً. لا أذكر ملمس الأرض تحت خطواتي، ولا أعرف شعور السير بلا عوائق أو ركض بلا قيود، فحياتي كانت موعدًا مبكرًا مع الشلل. لم أكمل عامي الثالث، حتى تخلّت عني قدماي، وتركني كرسيٌ ثابت أرافقه وترافقني، منذ أكثر من ربع قرن.

اسمي ربا، وهذه قصتي مع شللٍ هزم مناعتي، لا إرادتي.

غميضة القدر

ما زالت أختي الكبرى، التي تكبرني بتسع سنوات، تبكي كلما روت ذلك الصباح. كان صباحاً خريفياً عادياً، استعدّت فيه للمدرسة، وحضّرت لي زجاجة الحليب كعادتها. اقتربت مني، قبّلتني، وقدّمت لي الحليب… لكن يديّ لم تتحركا. أعادت المحاولة، مرارًا، وفي كل مرة كان الرد ذاته: جسدي يرفض الاستجابة.

حملتني بذعر، حاولت إيقافي، فوقعت مباشرةً. هلعٌ كبير اجتاحها، هرعت إلى والديها وهي تلهث، لعلّ أحدًا يكذّب ما رأته عيناها.

كان تشخيص الطبيب قاطعًا: “شلل أطفال. ولا علاج له”.

نعم، أنقذت سرعة التصرف حياتي من مضاعفات أخطر بعد أن وصل الشلل إلى البلعوم، لكن الأذى وقع، والخيبة استوطنت منزلنا. في لحظة، تغيّر كل شيء. تحوّلت الطفلة المفعمة بالحركة إلى طفلة على كرسي متحرك.

لم يكن والداي قد أعطياني لقاح شلل الأطفال، خوفًا من الأحاديث المتداولة حينها عن خللٍ في جرعات اللقاح وانتشار حالات شلل بسببها. لكن القدر لم يُمهلنا كثيرًا، وقرر أن يلاعبنا لعبته المفضّلة: الغميضة. اختبأنا منه، لكنه سبقنا بخطوة، وظهر فجأة… ليسرق من الطفلة خطواتها.

رحلة بلا سياحة

عندما أخبر أحدًا أنني عشت في رومانيا لستة أشهر، تلمع في عينيه أسئلة الإعجاب والسفر والمغامرة. ثم تنطفئ تلك اللمعة سريعًا، حين يعرف أنها كانت رحلة علاج لا سياحة.

بعد ستة أشهر من العلاج الفيزيائي في رومانيا، عدت إلى سوريا برفقة والديّ. تحسّنت حالتي، لكن الأمل بالمشي ضاع. لم يعد عمودي الفقري قادرًا على دعمي، ولا العكازات قادرة على التعويض.

انتهت رحلة المشي. توقفت الشقاوة. لم أعد أسبق إخوتي، ولا أركض لحضن أبي حين يعود من العمل. باتت الحياة تسير بإيقاع مختلف، وإرادة جديدة.

طريق النجاح لا يحتاج قدمين

كان والدي يفكّر بتعليمي في المنزل أو في مدرسة لذوي الإعاقة، لكنني رفضت. لم أحتمل رؤية إخوتي يغادرون للمدرسة وحدهم. أصررت، وأصرت أمي معي، فاستجاب أبي أخيرًا، ورافقني في أولى خطواتي نحو التعليم.

دخلت المدرسة، فدخل قلبي فرحٌ لا يوصف. استقبلني المدرسون والطلاب برعاية وحنان لم يقلّا عن حنان البيت. في العدوي، ثم في جرمانا، كنت الطفلة ذات الكرسي التي لم تعرف الاستسلام.

حين نلت شهادة الثانوية، شعرت أنني أطير بلا جناحين. لم تكن لدي قدمان، لكنني كنت أركض بالأمل. واصلت تعليمي في المعهد التجاري “عن بعد”، درست وحدي، ونجحت بتفوّق أدهش الجميع.

طريق النجاح لا يحتاج قدمين

كان والدي يفكّر بتعليمي في المنزل أو في مدرسة لذوي الإعاقة، لكنني رفضت. لم أحتمل رؤية إخوتي يغادرون للمدرسة وحدهم. أصررت، وأصرت أمي معي، فاستجاب أبي أخيرًا، ورافقني في أولى خطواتي نحو التعليم.

دخلت المدرسة، فدخل قلبي فرحٌ لا يوصف. استقبلني المدرسون والطلاب برعاية وحنان لم يقلّا عن حنان البيت. في العدوي، ثم في جرمانا، كنت الطفلة ذات الكرسي التي لم تعرف الاستسلام.

حين نلت شهادة الثانوية، شعرت أنني أطير بلا جناحين. لم تكن لدي قدمان، لكنني كنت أركض بالأمل. واصلت تعليمي في المعهد التجاري “عن بعد”، درست وحدي، ونجحت بتفوّق أدهش الجميع.

من الطفولة إلى فريق الاتصالات

رفضت أن أكون عاطلة، رغم كل نصائح إخوتي بأن أرتاح. كنت أبحث عن عمل بكل الطرق، أتابع إعلانات الوظائف، وأخوض دورات تدريبية. خلال إحدى الدورات المخصصة لذوي الإعاقة، تعرّفت إلى فرص عمل متنوعة، لكن عيني بقيت على شركة اتصالات. أعجبتني فكرتهم، التنظيم، والانضباط.

بعد عام، وخلال عملي المؤقت في شركة طيران، تلقيت اتصالًا غيّر حياتي: شركة سيريتل تطلب مقابلتي.

بدأت العمل معهم عام 2007، وما زلت حتى الآن. اليوم، أعمل عن بعد، أعيش لحظاتي بامتنان، لا تفارقني ابتسامة الرضا.

"مؤونة" من الحب لا تنفد

أشعر أن الله أعطاني الكثير. عيناي كما يقول الجميع جميلتان، لكن الأجمل أنني حظيت بـ”مؤونة” هائلة من الحب والاحتواء والرعاية تكفيني لعمرٍ مضاعف.

أغمض عينيَّ أحيانًا، وأتخيل نفسي أصعد الدرج، أركض، أضحك، أفتح ذراعيَّ لأستقبل أبي. لكنني عندما أفتحهما، تسبقني دموعي… أبي رحل منذ سنوات، وأمي لحقت به مؤخرًا، تاركة فراغًا لا يملؤه أحد.

أبكيهما، ثم أفكر في أولئك الذين نشؤوا بلا حنان، بلا سند، وتحمّلوا فوق طاقتهم من أجل مواجهة مجتمعٍ كثير الأحكام، قليل الرحمة.

قصتي ليست عن الشلل، بل عن هزيمته. عن جسدٍ استسلم، لكن روحًا قررت أن تكمل الطريق.

أنا ربا، ولست حكاية ضعف، بل صمود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *