منصة إرادة: مادلين جليس
على الرغم من خوفنا المستمر من المجهول، نفاجأ في كثير من الأحيان بأن الذات البشرية قد تحاول، عن وعي أو ربما في اللاوعي، أن تسابق يد القدر لتُحدث تغييرًا مفاجئًا في حياتنا، تغييراً ينقذنا من مخاوفنا. هذه قصتي مع ثقتي بنفسي التي أدركتها متأخرة.
لم يصبني مرض، ولم يصادفني أي حادث، ولم أُخلق بإعاقة في جسدي. لكنني كنت أُصر على تحدي القدر منذ كنت في رحم أمي، ولذلك وجدتني أحاول الخروج قبل إتمام تسعة أشهر من حملها، فجئتُ أنا ابنة الأشهر السبعة.
الحظ لم يكن بجانبي لحظة الولادة؛ فقد تسببت حركة خاطئة وقوية من الممرضة بخلع في مفصل الورك، أو كما يُسمى عاميًا “خلع ولادة”. لم تلحظ عائلتي ذلك، ولم تنتبه إلى الفرق في طول قدمي، حتى بدأتُ بمحاولة المشي والوقوف على رؤوس أصابعي على خلاف إخوتي وأبناء جيلي. حينها تَبَيَّن أن هناك عدة سنتيمترات تنقص رجلي اليسرى لتكون بطول أختها اليمنى. كانت تلك اللحظة بداية رحلة علاج لم تتوقف ولم تُثمر عن تحسنٍ مرغوب.
من طبيب لآخر، ومن عيادة لأخرى، أصبحت حياتي بلا لون سوى البياض. غرف المستشفيات، وسترات الأطباء، والجبس الذي رافق قدمي عدة مرات، والأجهزة الطبية لمعالجة الخلع؛ كلها بيضاء ناصعة، حتى الملل.

عملية تلو الأخرى
إلى أن بلغت الرابعة عشرة من عمري، كنت قد خضعت لعملية في المفصل، وبعدها عملية أخرى، وثالثة، لدرجة أن الفرق في الطول بين قدميّ زاد أكثر حتى بلغ سبعة سنتيمترات بالتمام والكمال. وبدأت حينها بالاتكاء على عكازين لمتابعة المشي الذي أصبح مرهقًا لقدمي.
لذلك كان الحل في عملية أخرى بهدف تطويل القدم، وزرع جهاز في الساق لفترة من الزمن، أسفر عن تكلس في الركبة التي لم تعد قادرة على الثني كما في السابق. فاتجهتُ للمعالجات الفيزيائية، التي نجحت حينًا وفشلت أحيانًا، لكنها أوصلتني في النهاية للتخلي عن إحدى العكازين، والاتكاء على واحدة فقط، مع حذاء طبي مرتفع ليُساوي رجلي اليسرى مع اليمنى.
لم يكن ذلك ليشجعني كما ظن الجميع، بل زرع فيّ يأسًا جعلني أرفض الذهاب لأي طبيب، باستثناء مرات قليلة مسايرة لوالديّ الساعيين لشفائي أكثر مني، ليكون كلام الأطباء واحدًا: “تحتاجين لعملية في المفصل”. كان الرفض هو جوابي الوحيد، معللة ذلك بأنني مكتفية بالقدر الذي وصلت إليه، ولا ضير عندي من استخدام العكازات. وهكذا بعد عدد غير قليل من جلسات المعالجة الفيزيائية، تمكنتُ من ترك العكازة، والمشي بمفردي، مع عرج بسيط في قدمي لم يكن مشكلة بالنسبة لي بعدما كنت أتكئ على عكازين اثنين، خاصة أنني كنت مصابة برهاب الوقوع بدون العكازات، بعد مرات كثيرة من السقوط لا أذكر عددها لكثرتها.
انتصار مؤقت.. ووعي متأخر
وأخيرًا، تخليت عن قطعتي الخشب اللتين كانتا تجعلانني مختلفة عن كل الناس. وأنا في الخامسة والعشرين من عمري، أصبحت حرة أكثر.
انتصار لا يوصف، عاش معي ثلاث سنوات لا أكثر، بدأت ركبتي بعدها تنذرني بضعفها. لكن هذه المرة، كان الألم من الرجل السليمة، التي تعبت من ضغط الجسم عليها، كما أكد لي الأطباء، والتي أصبحت أيضًا بحاجة لعملية تركيب مفصل. أي أن قدمي الاثنتين أصبحتا بحاجة لتركيب مفصل، لكن الطبيب أصر على أن الأولوية للقدم المصابة أساسًا، وهو ما حدث بزرع صفيحة في الفخذ، مع لف كامل الرجل بالجبس لمدة شهرين، لا أستطيع ثني ركبتي ولا تحريك أي جزء من رجلي. الأمر الذي آلمني وجعلني أرفض علاج القدم اليمنى المصابة حديثًا، بل كنت لا أريد أن أقوم بأي علاج آخر. لم أكن أهرب من حالتي الجسدية، بل كنت أبحث عن شيء آخر لا علاقة له بها، لكني لم أعرف ما هو.
صحيح أن أصدقائي وزملائي لم يشعروني باختلافي عنهم، إلا أن بعض الكلمات التي كنت أتلقاها من بعض الصبيان في طريق الذهاب للمدرسة أو العودة منها كانت كفيلة بجعلي أشعر بنقص عن كل من يمشي على قدميه دون الاستعانة بعكازين أو كرسي متحرك. ورغم كل السنوات التي مضت، إلا أنني ما زلت حتى هذه اللحظة، أغمض عيني فأرى طفلة صغيرة تمشي في الطريق، وعلى بعد عدة خطوات منها يمشي صبي آخر في نفس عمرها، يرمقها بنظرات غريبة ويبتسم بسخرية وهو يصفها بـ “العرجاء” ويقلد مشيتها المتعبة والبطيئة.
في تلك السن الصغيرة، لم أعرف معنى الثقة بالنفس، ولم أدرك أنني باختلافي متميزة عن كل الناس. لم أعرف أن عملي وشخصيتي هما من يعطيان المعنى الحقيقي لوجودي. وعلى ما يبدو، فقد كتب الله لي أن أصل لذلك الإدراك وقد تجاوزت الثلاثين من عمري. يومًا بعد يوم، بدأت نوافذ الأمل تتفتح أمامي، بدأت أشعر أنني قادرة على تحقيق الكثير، وبُتّ أشعر أن يداً خفية ترعاني في كل لحظة، وكان إيماني يزداد بأن حياتي تحمل معانيَ وفرصاً واختباراتٍ تستحق أن تعاش.

إيمان "جديدة"
أنا الآن أعمل في جمعية المستقبل لذوي الاحتياجات الخاصة في يبرود، أقابل فيها إعاقات من مختلف الأنواع، وأكتشف في كل مرة قصة وراء نوع الإعاقة، إنسان خلف الصورة النمطية، ومحبة وراء كل اختلاف. منذ الشهور الأولى لعملي في الجمعية بدأ اتزان روحي يظهر، وبدأت علائم الرضا ترتسم في وجهي، وهذا ما لاحظه أهلي وكلُّ المحيطين بي. وبدأت أشعر أنني أحمل هدفًا ساميًا، يتجلى في أن أمد يد العون لكل من خذلهم القدر، ولكل من ظن أن الإعاقة هي نهاية الطريق.
ما يؤلمني حقًا بعض الأفكار المشوهة التي يحملها البعض عن ذوي الاحتياجات الخاصة، أفكارهم ونظراتهم، شفقتهم، وكلماتهم اللاسعة كالسياط في القلوب. وعلى اعتبار أنني تذوقت ألم هذه الكلمات، فإنني أحاول مع كل فرد في الجمعية أن أزرع به الثقة بنفسه، أحاول جاهدة ألا يعيش غيري ما عشته من ألم ويأس خفي. في ذات الوقت، أتعلم منهم الكثير، دروساً ما كانت حياتي لتسمح لي باكتشافها.