منصة إرادة- مادلين جليس
يكشف المتحف الوطني بدمشق عن معرض مؤثر يسلط الضوء على قضية تلامس وجدان كل سوري، ألا وهي قضية المعتقلين والمغيبين قسريًا. يعرض المعرض قصصًا حقيقية وصورًا لضحايا هذه المأساة، مانحًا إياهم مساحة للتعبير عن معاناتهم وتخليد ذكراهم، متحديًا بذلك محاولات طمس الحقيقة وإخفاء الأثر.
في اللوحة الأولى صورة سلمى عبد الرزاق، طالبة الهندسة المعمارية الفلسطينية السورية، التي اعتقلتها قوات النظام في 30 ديسمبر 2012 عند حاجز تفتيش في مدخل مخيم اليرموك الذي تقطنه سلمى. وفي اللوحة الثانية، صورة مازن الحمادة، المعتقل الذي عُثر على جثته بعد أسبوع من سقوط النظام، وقد تعرض لأبشع أنواع التعذيب في سجن صيدنايا، أسوأ السجون السورية وأشدها تعذيبًا.
وإلى جانب هاتين اللوحتين، تنتشر عشرات اللوحات الأخرى لمعتقلين تحولوا إلى ضحايا للاختفاء القسري بعد اعتقالهم من قبل قوات النظام، وما يزال مصيرهم مجهولا حتى هذه اللحظة.
إلا أن ذاكرة الشعب السوري، لم تكن مغيبة طوال الأربعة عشر عاماً الماضية، بل خزنت كل تفصيل وكل صورة وكل صرخة ألم أو أمل. مشروع “الذاكرة الإبداعية” المستمر منذ أكثر من عقد يأبى أن يتحول ضحايا الحرب السورية إلى أرقام، ولا أن يتحول أبطالها إلى أسماء. وبعد عقد في المنفى، ومن دمشق هذه المرة يعيد إحياء صورهم وقصصهم من خلال معرض أُقيم في المتحف الوطني بدمشق، مسلطًا الضوء على أكثر القضايا حساسية للسوريين، وهي قضية المعتقلين والمغيبين قسرياً.
اللون الأول: الألم
توضح سناء يازجي، مديرة “الذاكرة الإبداعية للثورة السورية”، مراحل تشكيل هذه الذاكرة التي انطلقت عام 2013 بتصميم موقع إلكتروني باللغتين العربية والإنجليزية، ثم الفرنسية بعد ستة أشهر، مع تشكيل فريق والبحث عن داعمين. تشير يازجي إلى أن “الذاكرة الإبداعية” بدأت بتوثيق آلاف المواد التي ظهرت بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث جُمعت هذه المواد في كتابين: الأول بعنوان “قصة مكان قصة إنسان” الذي يضم خمسين موقعًا من مواقع الثورة، والثاني مستوحى من مشروع “معتقلون مغيبون” الذي لم يتوقف العمل به منذ خمس سنوات.
تؤكد يازجي أن الألم هو ما يجمع السوريين حقًا. فمع بدء الثورة والانقسام الذي طال الشارع السوري، كان التساؤل الأبرز الذي يُلح على كل سوري حر: ” كم تشتتنا وتفرقنا، وهل سيوجد ما يجمعنا لاحقاً، وهل سيتمكن السوريون من استعادة ذاكرة ثورتهم؟”.
الفن: خطوة على طريق العدالة
تُشير يازجي إلى أهمية منصة “الذاكرة الإبداعية” وأهدافها، فهي التي حملت آلام السوريين لترويها للجميع. فعلى مدار سنوات عديدة، استطاع الفن أن يعبر عن الثورة وأحلام ومخيلة السوريين في بناء سوريا جديدة محقة وعادلة للجميع. وتضيف أن الفنانين عبروا عن ثورتهم حتى من داخل السجون والمعتقلات، وحتى من خلال الهروب والمنفى.
اليوم، يحاول الفن أن يكون خطوة أولى نحو تحقيق السلم الأهلي والعدالة، وهما مطلبان متلازمان لكل السوريين الذين خسروا الكثير وقدموا تضحيات جسام من دمائهم، وأحبائهم، وذكرياتهم، وابتساماتهم. تشدد يازجي على أن “العدالة واحدة لا تتجزأ”، وتضيف: أبناء ثورة منذ البداية كنا نريد سوريا لكل السوريين وحزننا كان متساوياً لكل السوريين الذين ماتوا ومنهم الشباب البريئين الذين زجوا في الجيش وماتوا دون أن يعلموا لماذا ماتوا ومن هو العدو الذي يحاربونه.
لذلك، يجب أن يكون المطلب بتحقيق العدالة للجميع دون استثناء، فسوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى دون وجود عدالة. وكما تشير يازجي، فإن طريق العدالة طويل وشاق، ولكن الأهم هو البدء فيه، فالمسؤولية الكبرى تقع على عاتق الجميع، من مسؤولين وعامة الناس ونخب.
ردم الفجوة وتوثيق الذاكرة
تسعى “الذاكرة الإبداعية” إلى ردم القطيعة بين الناس وبين الأماكن الأثرية، ولذلك اختارت المتحف الوطني بدمشق ليكون المحطة الأولى لانطلاق أنشطتها. تشاركها الرأي لارا عيزوقي، المسؤولة الإعلامية للمعرض، التي تؤكد أن الحديث عن الذاكرة السورية، وعن ذاكرة الثورة ومغيبيها ومعتقليها في المتحف الوطني، الذي يمثل الذاكرة التاريخية للسوريين، يحمل أثرًا معنويًا عميقًا. رسالة المعرض هي أن الناس قد تُعتقل وتُخفى وتموت، ولكن “الذاكرة الإبداعية” توثق قصصهم وأسماءهم، تمامًا كما يوثق المتحف قصص آثاره وتاريخ السوريين جميعًا بين جدرانه وأحجاره. واليوم، استطاع المتحف أن يوثق ذاكرة الثورة وأسماء المغيبين والمعتقلين الذين كانوا جزءًا كبيرًا من انتصار الثورة والعودة إلى المتحف، بحسب عيزوقي.
ترى عيزوقي أن الفن يستطيع أن يقول ما يصمت عنه الناس خوفًا، وأن يوصل رسائله مباشرة أو غير مباشرة بطريقة تراجيدية أو كوميدية، وقادر على دخول كل المنازل. لذلك، فهو رسالة سامية تحمل في طياتها السلم والمحبة، مع العلم أنه قادر على حمل رسائل معاكسة، ولكن هنا يُوظف ليكون صوتًا للمحبة والسلام.
كما كان التعبير عن الرأي مصادرًا في عهد نظامي الأسد الأب والابن، كان الفن أيضًا مصادرًا لحريته ومُسيّسًا لخدمة مصالح النظام البائد، كما تؤكد عيزوقي. وتُشير إلى أن “الذاكرة الإبداعية” تُرسخ الفن في تكريس السلم الأهلي والعدالة الجامعة لكل السوريين، الذين لم يجتمعوا سابقًا على رمز يوحدهم سوى السلطة التي كانت موجودة حينها، والتي أُجبروا على الخضوع والانصياع لها.
مع كل السوريين: الفن يعلو فوق الرصاص
يسعى فريق “الذاكرة الإبداعية” للانتقال بأنشطته إلى المحافظات الأخرى، فمركزية دمشق في المؤتمرات والنشاطات والعروض ظالمة لباقي المحافظات برأي عيزوقي. وتؤكد على رغبة الفريق في أن يحضر الناس إليهم من المحافظات، وطموحهم في زيارة وإقامة المعرض في كل محافظة. فكل محافظة عانت الكثير، وكل أهل محافظة قدموا تضحيات وخسروا أحباء، وكل سوري على هذه البقعة الجغرافية خسر وقدم للثورة بطريقة مختلفة، وكل منطقة تنتظر معتقليها ومغيبيها الذين اختفوا في سجون النظام.
اليوم، يعود الفن ليقدم رسالته السامية، ليُخفت صوت العنف، ويرفع صوت العقل، وصوت المحبة والحق والعدل. تضيف عيزوقي: “طوال أربعة عشر عامًا، كان صوت الرصاص هو الأعلى، الآن صوت الفن والمحبة والتسامح هو الأعلى، وهو الذي انطلق ليقول كلمة كل السوريين بأن الثورة انتصرت، وأن العدالة ستتحقق يومًا ما”.
يضم المعرض أكثر من 200 عمل فني، شارك الجمهور من خلالها قصص ضحايا الاعتقال والاختفاء القسري، بأيادي فنانين رسموا 14 عامًا من الألم والفقد، ليضموا أصواتهم إلى صوت كل السوريين صارخين: “وينن؟”.