منصة إرادة – مادلين جليس
عندما يسألني أحد عن طفولتي، أغمض عينيّ محاولة تذكّر تفاصيلها، لكنني أجد صعوبة بالغة في تذكر أي شيء من السنوات التي قضيتها بين أربعة جدران. لا أريد تصديق أن زواج الأقارب كان قادراً على تغيير مستقبل طفولتي بأكملها، لكن العلم غالباً ما يقول كلاماً مختلفاً تماماً، ويقدّم تفسيرات لا نتوقّعها، ومع ذلك فإن علينا تصديق الحقائق حتى القاسية منها.
في وسط هذا كله، فإنني أؤمن بشيء واحد فقط، وهو أن الله تعالى أراد لي أن أكون بطلة مختلفة عن باقي الأبطال الذين نقرأ عنهم في القصص والحكايات. أنا بطلة نفسي، وبطلة قريتي، وبطلة الإعاقة التي لم تستطع أن تغلق النوافذ أمام حلمي الكبير. اسمي نورا بدور، وهذه قصتي مع البلدان التي وصلتها بدون أقدام.

عشرون عاماً عشت فيها دون أي ّ شعور بقدمي، إلا أن اللحظة التي اعتليت فيها منصة التكريم على كرسيي المتحرك شعرت بأن قدميَّ تريدان أن تطيرا بي إلى كل بقاع العالم، لأول مرة أشعر أن قدميَّ لم تموتا كما ظننتهما.
لأول مرة أدرك أنني البطلة الحقيقية في قصتي، وليس القدر ولا حتى الظروف.
منذ أن ولدت كان إحساسي معدوماً بأطرافي السفلية، لكن كان هناك شعورٌ آخر قوياً ويكبر يومياً في قلبي. شعور عصي على الكلمات. كنت أشعر أن هذا الجزء المفقود من حركتي، لابد وأن له مقابلاً آخر، وجه آخر، وأن هناك حتماً قوة خفية لا أدري مكانها ولا حجمها في جزء آخر بجسدي.
مدرسة منزلية مصغّرة
حين تركت المدرسة بعد المرحلة الابتدائية، لم أكن أعرف أنني سأخرج من الغرفة التي لزمتها لسنوات، كانت القصص والكتب التي تقع عليها يدي هي مدرستي الثانية، وهي عالمي الثاني، وهي حياتي الخفية التي لم يشاركني بها أحد.
عام 2000 كانت سنة العبور، من الجدران الأربعة للعالم المفتوح على الشمس، حيث انتقلت لمركز التأهيل في دمشق، بعد صراعات طويلة بين الخوف على الصبية الوحيدة، وبين رغبتها في فتح صفحة جديدة من حياتها، لا تغلّفها بجدران خانقة تمنع عنها الاحتمالات.
غادرت منزل والديّ وقلبهما على أكفّهما، هل اتخذوا قراراً صحيحاً؟ هل ستستطيع حماية نفسها؟ هل ستتمكن من تدبر أمورها لوحدها؟ كلها أسئلة ترددت في رؤوس أفراد أسرتي دون أن تلقى أجوبة واضحة. وعلى الرغم من أن الأجوبة لم تكن سريعة كما يجب، إلا أنها كانت كافية وصادمة حدّ دهشة الفرح.
منحني مركز التأهيل فرصة تعلّم الأشغال اليدوية، بالصوف والكروشيه، وبدأت بعدها مباشرة بالمشاركة في المعارض مع سيدات أعمال ومهرجانات جمعية المقعدين وأصدقائهم في مدينة اللاذقية، وعرض منتوجاتي للبيع، في عدة محافظات سورية.
صنعت بيدي أجمل الأشكال للحقائب النسوية وأغطية للطاولات، وللشاشات، وملابس متنوعة، وكانت تباع كلها في إشارة من الله أنه يرى عملي ويتقبله، بل ويشجعني على الاستمرار به.
كانت تلك المشاركات كالنوافذ التي تفتح أمام روحي، والتي بدأت من خلالها أرى الدنيا بعيداً عن الجدران الأربعة التي حرمتني من مشاهدة كل جمال الدنيا وبهائها.

بداية النجاحات
عشر سنوات مرت وأنا على هذه الحالة، أعمل وأبيع وأشارك بالمعارض والمهرجانات، لكنني بدأت أشعر أن هناك شيئاً آخر عليّ فعله، وكانت الرياضة وجهتي الجديدة.
وعلى الرغم من إقامتي في إحدى قرى رأس البسيط التي تبعد حوالي 55 كيلو متراً عن المدينة، إلا أنني تابعت ممارسة الرياضة التي بدأت فيها وهي رفع الأثقال.
عام 2007 كان عاماً مميزاً بالنسبة لي، ففيه كانت أول مشاركة لي في الدورة العربية بمصر والتي حققت فيها برونزية، ومن بعدها توالت المشاركات التي حصلت من خلالها على ميداليات عربية وآسيوية وعالمية منها الذهب والفضة والبرونز.
آخر مشاركة لي كانت في شهر آذار من العام الفائت 2024 في بطولة العالم في الإمارات التي حصلت فيها على برونزية.
في الحياة لسنا بحاجة إلى قدمين لنصع كل شيء، في كل سنوات حياتي كان التساؤل الأبرز الذي يلح في رأسي، ما الفرق بيني وبين الشخص السليم، بعد كثير من العمل والجهد وصلت للجواب الصحيح للسؤال. الفرق هو الوقت فقط، فالشخص السليم يستغرق دقائق، أما ذو الإعاقة فيستغرق وقتاً أطول، الوقت هو الفرق في الأعمال التي تتطلب قوة جسمانية، أما في الفعل فلا فرق، وأكاد أجزم أن ذوي الإعاقة لديهم من الإرادة وقوة التصميم وحب الحياة أكثر من الأشخاص العاديين السليمين بكثير.
بدأت ذاكرتي شيئاً فشيئاً تمحي كل ماهو سلبي فيها، ولذلك لم أعد أتذكر حركات التنمر التي تعرضت لها في طفولتي. لكن نظرات الشفقة التي أبداها البعض لوضعي بقيت حاضرة، ونظرات الغرابة التي لاحقني بها بعض الأطفال ممن لم يعرفوا ما معنى أن يختلف عنهم طفل في الشكل أو الحركة.
لكنني أنسى وأتناسى مشاعر الأسى التي أحسست بها، كما أتناسى كل شعور سلبي وصل لقلبي، وكل لحظة يأس اختبرتها ضمن جدران الغرفة التي عشت بها طيلة تلك السنوات.
هدفي الأول كان تغيير نظرة الناس والمجتمع لذوي الإعاقة، ودفعهم للإيمان بقدرتي وقدرة كل شخص لصنع الفرق في حياته من خلال الدعم والتشجيع.
لا يمكن أن يعرف معنى عبارة روعة الرياضة، إلا الذين نقلتهم الرياضة للنجاح فعلاً، وهذا ما فعلته معي، فهي لم تزد في قوتي الجسدية فقط، بل رفعت الروح المعنوية لدي، جعلتني أؤمن أني قادرة على تحقيق المستحيل.
الشيء الوحيد الذي لم تستطع إرادتي التغلب عليه هو التنقل والمواصلات، فهي العائق الأكبر أمامي.، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية التي تمنعني من استئجار تكسي في كل مرة أريد التنقل بها.
لو فكرت في عدّ البلدان التي زرتها، والأصدقاء الذين تعرفت عليهم من مختلف البلدان، فإنني سأقضي الساعات الطويلة، لكنني وعلى الرغم من ذلك، لا أملك أي صديق في قريتي أو منطقتي، فالنظرة الدونية التي لاتزال مجتمعاتنا تنظرها لذوي الإعاقة، تمنع أي أحد من الاقتراب منهم والغوص في أعماقهم.
رصيدي كبير من الإنجازات، يضم ثماني ميداليات ذهب، وتسع ميداليات فضية وأكثر من عشر ميداليات برونزية، حصلت عليها من مشاركتي في دول عديدة منها مصر والأردن وماليزيا وبريطانيا وكوريا والبرازيل واليابان وكزاخستان وإندونيسيا والصين والعراق والإمارات وقطر.
أما الإنجاز الأهم في حياتي فكان في عام 2019 عندما شاركت ببطولة العام في كازاخستان، والتي شاركت بها بغرض التأهل لأولمبياد طوكيو، لكن المفاجأة الكبرى هي أنني استطعت حينها تحقيق المرتبة الثالثة ببطولة العالم والحصول على ميدالية برونزية، والتأهل لأولمبياد طوكيو.

أحلام... قد تتحقق
حين أجلس لوحدي أتذكر نفسي، أتذكر نورا قبل خمسة عشر عاماً ونورا اليوم، وأحمد الله أنني لم أفوت فرصة الانطلاق نحو الحياة التي كانت تنتظرني بملء يديها.
أتذكر كيف كنت فتاة تلازم المنزل، وكيف أصبحت رياضية وصبية عاملة، تسعى لتطوير نفسها وفتح الأبواب المغلقة أمام طموحاتها.
أحلامي كلها تتلخص في وسيلة نقل خاصة بي، سيارة أصل بها إلى أي مكان دون التفكير بإعاقتي التي تقيّد حركتي.
أحلم بوطن جميل، يحترم الجميع دون استثناء، وطن يحتوي ذوي الإعاقة، ويمد لهم يديه ليلحقوا بأمثالهم من الأشخاص السليمين، ويكونوا وإياهم يداً واحدة في بناء هذا الوطن وتطوره.