الإرادة

الفن لا يوقف الحرب… لكنه يخلّدها زياد كلثوم والرقيب الخالد… حين يصير الألم صورة

عبد الكريم عمرين

هل يمكن أن يعكس أو يعبر الأدب والفن عن حرب, أي حرب, في يوم واحد من بداياتها؟ وهل يمكن لأدب تسجيلي أو فن توثيقي أن يرصد تفاصيل حيوات الناس في زمن الحرب؟ الجواب قطعاً لا.. لكن زياد كلثوم في فيلمه: ” الرقيب الخالد ” استطاع أن يلهب عواطف جمهور مشاهديه, لا بل أن يبكيه في غير موضع من الفيلم, الذي عرضه النادي السينمائي بحمص, ضمن نشاط “مبادرة عاصمة السلام”, في صالة صغيرة, غير مخصصة للعروض السينمائية.

يأتي عنوان الفيلم: “الرقيب الخالد” ردأ على تعبير “القائد الخالد” وهي أحد الصفات الكثيرة التي أطلقت على الدكتاتور الأسد/ الأب. لكن القائد رحل مضرجاً باللعنات ورحل خليفته حاملاً ثروات البلاد كلص غبي وأناني ودكتاتور صغير خائف من مصير الموت الذي ينتظره بحكم عدالة محاكم الشعب, ولم يستحق الخلود سوى الناس الذين صمدوا في وجه الظلم الأسدي المستبد, صمدوا في حربهم معه رغم الخسائر الكبيرة والنكبات والقتل والدم والدمار الذي حاول النظام البائد أن يمارسها على الناس, الذين عارضوه وخرجوا في مظاهرات سلمية تطلب الكرامة والحرية ولا شيء غير ذلك. بقي الرقيب خالداً لأن ضميره الحي ووجدانه النقي لم يحتمل أن يكون رقيباً احتياطاً في قطعة عسكرية تتبع الدفاع الجوي, وهو أحد التشكيلات العسكرية الأسدية الذي ساهم بدمار البلاد وقتل وتشريد العباد, فقط لأنهم صرخوا طلباً للحرية, الرقيب هو ذاته المخرج زياد كلثوم وقد استدعي لأداء خدمته العسكرية الاحتياطية عام 2012 , وهو العام الثاني لاندلاع الثورة السورية.

يقول زياد في أغلب مقابلاته الصحفية, أن أنشوطة خدمته الاحتياطية كانت تضيق على رقبته وروحه, فهو يرى القذائف والصواريخ تخرج من قطعته العسكرية التي يعيش فيها يومه, ويعرف إلى أين هي ذاهبة بحمولتها من البارود, ويعرف هدفها, وهو قتل الناس, من الأطفال والنساء والرجال ,أبناء بلده ومن جلدته السورية, وستهدم البيوت والعمائر, وفي المساء يذهب إلي عمله كمخرج مساعد لمحمد ملص الذي يصور فيلم: سلّم إلى دمشق.

في المساء, في التصوير الليلي لفيلم محمد ملص يستأذن الرقيب, استاذه المخرج أن يصور معاناة بعض الشخصيات المشاركة في فيلم ملص, فيأذن له, وهنا تبدأ سرديات لبشر أنهكهم الاستبداد الأسدي عبر سنوات طويلة, ويعيشون لحظات رعب حقيقية أثناء عملهم في تجسيد الفيلم, بل يلتقط زياد كلثوم بعض العابرين أثناء التصوير, ليرفع وتيرة الترقب لدى المشاهد, وهنا تجلت براعة زياد في التقاط الألم الإنساني, ألم السوري وهو يعيش بين القذائف وأصواتها, فيستخدم في معظم حواراته مع زملائه اللقطة القريبة جداً, ويركز على الوجوه والعيون وأخاديد آثار السنين, على الوجوه أو الأيادي, ويبدع زياد, ربما لأن ثمة تطهير لروحه يحس به بسرديات الناس المؤلمة, ويتخلص من ذنب لم ولن يرتكبه, باعتباره رقيباً في الجيش الأسدي القاتل.
لا أعرف لماذا سمى زياد فيلمه فيلماً وثائقياً, هل لأنه يوثق لحظات الرعب الحقيقي في حيوات الناس؟ فطريقة عرض السرديات وحجم الألم والصدق والعفوية والحميمية تجلت في كل كادر لأية لقطة فيه, وفي كل تفصيل مشهدي… وهذا ليس من التوثيق في شيء. إن ما فعله زياد في فيلمه أكبر من التوثيق, إذ تجاوز ما فعله يرتقي من سرد الألم إلى ألم السرد.

نقطة أخيرة, لقد كان بإمكان مخرج “الرقيب الخالد” أن يهمل تماماً ما صوره بموبايله, عند خروج البارود القذر ليقتل الناس, فالتصوير كان سيئاً جداً فلم نشاهد أي قطعة سلاح ولا زميل له يسدد أو يطلق وليس المطلوب ذلك بالتأكيد.. فعشرة دقائق أو تزيد على تصوير لا شيء يفعل كل شيء بات مرهقاً لمشاهد الفيلم, وليس له تبرير غير تبرير انشقاقه ببضع كلمات مكتوبة في نهاية الفيلم.
لو اقتصر الفيلم على سرد حكايات الناس المؤلمة والتقاط الخوف الممض في لحظات الحرب, لكان فيلماً مكتملاً, يشد المشاهد ليتعاطف ليؤازر ليلعن الاستبداد, ولينتمي إلى صُنَّاع الحرية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *