الإرادة

عيد يتشح بالسواد: كنائس دير الزور المدمرة

شيماء شريف

قبل أربعة عشر عامًا ونيّف، عندما كنت لا أزال مراهقة أحضّر للشهادة الثانوية، أدور في دوّامةٍ من الضغوطات: إزعاج داخل المنزل من طرف أخي المتسلط، وترهيب من المعلّمين في المدرسة الذين اكتشفوا الثروة التي تحققها الدروس الخصوصية، ليبدأ كل واحد منهم بمحاصرة أي طالبة لا تنضم إلى دروسه. في ظلّ كل هذا الجنون، عثرتُ أنا على متنفسٍ لي عن طريق الصدفة، كنز من الترفيه والجمال. شارعٌ يُدعى الكورنيش، أو شارع النهر كما كنّا نسميه في دير الزور، ولأنني فتاة من خلفيةٍ عائلية متزمّتة، كان اكتشافي لذلك الحي يشبه دخول هاري بوتر في الجدار السحري وانتقاله إلى مدرسة السحر هوغوورتس.

شارعٌ غالبية قاطنيه من المسيحيين، وليس هذا أصل السحر، ولكن قبل سنوات الحرب وتدخل جيش الأسد والمجموعات المعارضة واقتتالها والتسبب بدمار 80% من مدينة دير الزور، كان وضع هذا الشارع مختلفًا تمامًا. طبيعة خلّابة بجوار النهر، منظر الجسر المعلق والأبنية التراثية، سكّان يتعايشون مع بعضهم ضمن هذه الأحياء، السيّاح الذين يرتادون المدينة في أعياد دينية، وأربع كنائس تشكّل زوايا لوحة فنية.

أما الآن، وبعد عودتي إلى مدينتي المدمرة بعد التحرير -كما يحب الإعلام أن يصف ما حدث في ٨/١٢/٢٠٢٤- عدتُ لأدخل مرة ثانية في الجدار السحري، وأتفقّد اكتشافي القديم (شارع النهر) الذي لم يتبق منه شيءٌ تقريبًا سوى النهر نفسه. بل ربما نهر الفرات تغير أيضًا بعد أن اختبر الدمار والفقد كسكانه، فانخفض منسوب مياهه عن سنوات ما قبل الحرب، ونمت أعشاب ونباتات غريبة على ضفافه، والتي كانت تُهذّب سابقًا بسبب انتشار الجراديق (الكافتيريات) على شارع النهر. الجسر المعلق، العقد الأثري الجميل الذي كان يزين صدر النهر، تحطّم تمامًا وتناثرت حباته.

كنيسة الشهداء الأرمن
حطام ما كان يوما ما تاريخ
بقايا مجرسة كنيسة الأرمن
كنيسة الشهداء الأرمن
كنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين
لم يبق مسيحيين في دير الزور سوى بضعة أشخاص
الكنيسة الأشهر أصبحت خراباً
بصمات العابرين على جدران الكنيسة
دير الراهبات مهجور من سكانه وزواره
كنيسة الأرمن الكاثوليك
هل نجت هذه الكنيسة من المقتلة؟
صلاة صامتة للغائبين
ومر كثير من الغزاة
ومر كثير من الغزاة
كأرملة تتشح بالسواد
كنيسة السيدة تحمل آثار القذائف والبراميل
كنيسة السيدة تحمل آثار القذائف والبراميل

إلى الأمام قليلًا، وبجانب فندق زياد (سابقًا)، كنيسة الشهداء للأرمن الأرثوذكس. كانت هذه الكنيسة قبل الحرب وجهة للسياح، خصوصًا الأرمن الذين يتوافدون كل عام بتاريخ 24 نيسان لإحياء ذكرى المجازر التي حدثت لهم عام 1915. هذه الكنيسة تمّ تدميرها بالكامل، ولم يبق منها سوى قبّة تتوسط حقلًا من الحجارة المكسّرة وبقايا رخام. أطلال تقف كشواهد على مدينة منسية، لكنها تأبى أن تنسى أبناءها الذين قتلوا ورحلوا وتهجروا.

ضمن شارع نادي الفتوّة الواقع على شارع النهر، لمحت قبّة كنيسة السيدة العذراء ومدرستها. رأيتها من بعيد، وقبل أن أصل إليها وألاحظ حجم الدمار عن كثب، بدت لي مثل عجوز لا تزال تحتفظ بشيءٍ من جمال الشباب وعنفوانه. كانت الكنيسة لا تزال تقف شامخة على الرغم من مئات القذائف والبراميل التي قصفتها، وتركتها حزينة متشحة بالسواد.

مقابل كنيسة السيدة العذراء، رأيت أكوامًا من الحجارة. تعرّفت عليها بصعوبة. إنها كنيسة السريان الكاثوليك. هي كنيسة قديمة ومهجورة ومهدّمة حتى قبل الأحداث. لم أعلم بأنّ السور المصنوع من اللبن والحجر الذي يلتف حولها كان يحيط بكنيسة إلّا عن طريق الصدفة بواسطة أحد أصدقائي المسيحيين، عندما قررت مرافقته في جولة في شارع النهر والتقاط بعض الصور للكنائس المدمّرة التي تنتظر أن يتمّ ترميمها، ترميمًا أخشى أن يفقدها اللمسة المعمارية القديمة التي خبّأت فيها جزءًا مني في كلّ مرة كنت أزورها فيها قبل الحرب.

قررت متابعة المشي، الكاميرا بيدي والخيبة أمام عيني، شعرت بأنني أمشي مع النسخة القديمة مني، عندما كنت مراهقة أكثر نضارة وأقل همًا. الآن أنا في شارع سينما فؤاد، على يميني في أحد الحارات اصطدمت عيناي بباب كنيسة الأرمن الكاثوليك. بدت لي الكنيسة سليمةً وكأنّها نجت من المقتلة. دخلت إليها ووجدت علامات تركتها بصمات زوّار قبلي، يبدو أنّهم كانوا ثقيلين عليها، كتبوا على جدرانها شعارات عدوانية ضد أبنائها ومحبيها، وغادروها بعد أن كسروا صليبها بدلًا من تقبيل جبينها قبلة وداع أخيرة.

لاحظت بعد خروجي منها والتجول في شارع سينما فؤاد بأنّ البيت الذي نسكنه أصبح قريبًا، ولم يبق من رحلتي إلّا المحطة الأخيرة: كنيسة يسوع الملك للآباء الكبّوشيين، ودير الراهبات التابع للكنيسة نفسها، وضمنه دار للمسنين كان يتبع للكنيسة نفسها.

هذه الكنيسة هي الأكبر والأكثر شهرة سابقًا في دير الزور بسبب موقعها في بداية شارع سينما فؤاد، السوق الأرقى في دير الزور، والذي كانت أغلب دكاكينه مملوكة لمسيحيي المدينة. كان عبارة عن سوق للذهب والألبسة الراقية. قبل أربعة عشر عامًا، كان أخي يرفض مجرد مروري في هذا الشارع، ويعتبر أني “سأتفتح” على الدنيا وأشاهد فتيات يلبسن التنانير القصيرة ويصبغن شعورهن. ربما كان يخشى أيضًا عليّ من مضايقة الزعران الذين يداومون فيه دوامًا رسميًا للفرجة أو للتسكّع. كنت أجيء خلسة إلى هنا، أما اليوم فلم يعد المرور فيه يشكّل أيّ مشكلة، مع أنّ الزعران لا يزالون موجودين، وها هم يدبكون في وسط الشارع على أنغام الأغنية الشعبية (لبّت لبّت). كان المشهد بالنسبة لي مثيرًا للضحك وكوميديا سوداء في الوقت نفسه. ما الذي حلّ بهذا الشارع؟ أين أهله؟ أين روحه؟ أين صوت الأجراس التي كانت تقرع في مثل هذه الأيام؟

كان يعيش بضع مئات العائلات المسيحية في دير الزور قبل أن ينزحوا تباعًا إلى محافظات أكثر استقرارًا مثل حمص والقامشلي والساحل السوري، أو مغادرة البلد بشكل كامل في محاولة بحث عن مستقبل أكثر رحمة وأقلّ وحشية، ولم يبق منهم اليوم سوى عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع الكف الواحد.

وصلت كنيسة يسوع الملك وتجوّلت فيها، وجدتها وقد أعلنت الحداد، فلا عيد هذه السنة أيضًا. الدمار حلّ بها، دار العجزة غير موجود تمامًا، دير الراهبات أيضًا دُمّر بشكلٍ كامل. أنفاقٌ في حديقتها حفرها الغرباء العابرون. جنود الأسد أيضًا كتبوا على ما تبقى من جدرانها بأنّهم مرّوا من هنا.

لملمت ذكرياتي من محطتي الأخيرة، مشيت بخطىً ثقيلة ومتعبة. همست بأذن الكنيسة بأنّك لست وحدك من خسر. أنا أيضًا سُرقت من عمري أربعة عشر عامًا، مضت بلمح البصر بين حسرةٍ وفقد.