مياس سلمان
يروي مسلسل البطل قصة عائلة وجدت نفسها وسط معارك وحرائق وأقدار تبدو أقوى من الجميع. الضيعة التي يعيشون فيها تبدو بمثابة ساحة صراع بين جبهة الحرب والجبهة الداخلية، هناك حيث الجميع يخسر روحه أو جزءاً منها… إما قاتلاً، أو قتيلاً، أو جريحاً، أو هارباً… سيجمعهم رابط مشترك وهم يختبرون الرعب والندم والبطولة والجبن في مواجهة وحش ينهش أرواحهم قبل أجسادهم.
من الصعب تجسيد المأساة السورية، درامياً. مسلسل (البطل) حاول ذلك مع المخرج الليث حجو والسيناريو والحوار لرامي كوسا، مستوحى من مسرحية (زيارة الملكة) للكاتب ممدوح عدوان. البطل مسلسل اجتماعي تكلم عن مخاوف السوريين ومآسيهم وانكساراتهم وآمالهم القليلة المتبقية بإطار درامي مفعم بقيم الإنسانية، لكنه يتشح بالسواد أيضاً. فهل نجح في تجسيد المأساة المؤلمة؟ أم ما زالت الدراما أضيق من ألم السوريين؟
الحرب والبطولة
ربما أجمل ما في المسلسل أنه جسد معاناة السوريين وانكساراتهم في زمن الحرب، ضياع أحلامهم وعجزهم عن تغيير أقدارهم وتخليهم عن مبادئهم، فالحرب لا تسمح لأحد أن يكون بطلاً. الجميع سينهزم وتشوهه الحرب بطريقة أو أخرى. كل الشخصيات تأثرت سلباً بالموت والفقر والخوف الذي يهددها كل لحظة، وتخلت بطريقة ما عن قيمها الأخلاقية (فمريم) بنت يوسف تحولت من طالبة صيدلة تحلم بالزواج من عشيقها والسفر، إلى فتاة حامل بطريقة غير شرعية وتريد الزواج من (فرج) زوج صديقتها لدرء الفضيحة، كذلك فرج أراد أن يعيش بطلاً في البداية ليجعل الناس تحبه وتنسى أن أمه قتلت أباه ولكن مع قسوة الظروف تحول إلى مهرب بنية حسنة في البداية ثم أصبح تاجر أسلحة ومخدرات وقاتل مأجور يزأر كالوحش وهمه الوحيد السيطرة والمال، أما (مجد) ابن يوسف فيتحول من طالب بكلوريا إلى عاشق لسلافة المتزوجة ليصبح بعدها سارق لأكبال الكهرباء ومن ثم قاتل، كذلك (سلافة) التي سافر زوجها وتركها مع طفلها مع وعد بأن تسافر إليه في ألمانيا عندما تستقر أوضاعه، وعندما يتأخر سفرها تتوقف عن مقاومة شعورها بالارتياح لاهتمام مجد وحبه لها لتخون زوجها في النهاية مع أحد رجال فرج مقابل مساعدتها بالسفر، أما (رانيا) زوجة يوسف فتجبرها الظروف على الرضوخ لمديرها والتوقيع على مناقصات غير مشروعة.
فالجميع سيخسر في الحرب وينكسر ويتخلى عن الكثير من قيمه وربما كان الأكثر صموداً (يوسف) الذي تخلى في النهاية وأرسل فرج وعصابته لتهديد مدير رانيا في العمل، كذلك تخلى عن صدقه عندما قرر حمل جريمة مقتل فرج ودخوله السجن لتبرئة ابنه القاتل.
هل قال لنا مسلسل البطل أنه لا أبطال في الحروب لأنها تنتزع أجمل ما لدينا وتشوه معنى الشجاعة والصمود لتحل فيها أشباح الفقد والخسارة. أم أنه أراد أن يقول إننا جميعاً أبطال، أو نستطيع أن نكون كذلك رغم الانكسارات.. يمكننا النهوض، وأن الاستمرار قد يكون بطولة في حد ذاته. الاستمرار ولو من خلال طفل، ناج من المأساة، ابن الحب، حتى لو كان مسجلاً على قيد الحرب ويحمل كنية مجرميها.
يوسف والكرسي
يبدأ المسلسل بلقطة لبسام كوسا (الأستاذ يوسف) وهو يجر كرسيه المتحرك وحيداً بصعوبة على طريق ترابي في الريف وينتهي المشهد بدخول (الأستاذ يوسف) السجن ليتساءل المشاهد هل انتقل من سجن الكرسي المتحرك إلى سجن آخر أم أن هناك تفاصيل لحكاية أخرى؟
في الحلقة السادسة، وأثناء عودة الأستاذ يوسف إلى الضيعة بعد إصابته بالشلل. يقول من المتعب أن يكون كل ما تريده في الحياة هو ما يقوم به الآخرون بمنتهى البساطة والعفوية وأن يضيق العالم الكبير وأن تصغر أحلامك الكبيرة. وأن تقل مفرداتك وأن تتضاءل مطالبك، فيما العالم الذي يحاول أن يقول لك إن كل شيء سيكون كما كان. فلا تصدق. سيكون هذا تلخيصاً صريحاً لمشاعر أي شخص مر بحادث أو مرض سبب له إعاقة دائمة. ليس فقط لمشاعره، بل مشاعر عائلته القريبة. العالم قبل الإعاقة مختلف عن العالم بعد الإعاقة. لكن يوسف يقرر الاستمرار، يحاول أن يعيد عالمه إلى ما كان. سيصنع القهوة، سيسقي الزرع وسيحل مشاكل لا طاقة له على حلها.
هكذا، لم يجعلنا (يوسف) نشعر أن الكرسي شيء منفصل عنه، بل كانت رفيقته مثلها مثل القلم الذي يستخدمه للكتابة، فلم تكن الإعاقة هي الموضوع، بل تم تصويرها على أنها حدث حاول يوسف التأقلم معه وتطويعه بكل إرادته، فيوسف ظل يكتب ويذهب للمدرسة والجميع يستشيره ويأخذ برأيه ويتواجد في جميع أرجاء القرية أحياناً يقود كرسيه بمفرده وأحياناً بمساعدة أحد مع وعورة الطرقات.
كان مشهد التكريم ليوسف معبر جداً يجسد نظرة السلطة للأشخاص الأضعف. بداية بالخطاب الذي لا يناسب المناسبة ولفظ اسم يوسف الثلاثي بشكل خاطئ ونهاية بحمل الأستاذ يوسف مع كرسيه للصعود على المنصة الموضوعة فوق درج عال لاستلام الدرع وما تحملها من دلالات البرج العاجي لأصحاب السلطة ونظرتهم للأشخاص ذوي الإعاقة كديكور لتلميع إنسانيتهم، فلم يمر يومان من التكريم حتى تم إعفاء الأستاذ يوسف من الإدارة وتحويله إلى أمين مكتبة ليعيش بعدها مشاعر حزن على التهميش والإقصاء.
في أحد المشاهد، يقف يوسف أمام زوجته رانيا ليبرر اعتداء عناصر فرج على المديرية لأن المدير تحرش بها، يقول لها: كيف بدي واجهه؟ كيف بدي أوصل لعنده؟ يحمل هذا المشهد من انكسار عميق، ورغم أنه لم يكن الوحيد إلا أنه من أزل رجل يوسف إلى مستنقع الحرب الذي غادره سريعاً، هارباً من الانكسارات المتتالية التي أخذت تجره كما جرت الجميع قبله، حتى أصبح يقاتل وحيداً.
في مشهد آخر، يجر يوسف الكرسي المتحرك في حديقة المنزل محاولاً الاعتناء بالأشجار ليسقط عن كرسيه ويشاهد الأرض بالمقلوب، يشاهد العالم على حقيقته وقد قلب رأساً على عقب، ويواجه عجزه الكامل، غير قادر على الوقوف كما هو غير قادر على إصلاح العالم.
البناء الدرامي والإخراج
كان الإخراج يحمل لمسات إبداعية واضحة، زوايا الكاميرا العلوية حيث يبدو الأشخاص ضعفاء ومهزوزين، اللقطات الطويلة التي تحتاج تركيز كبير وانضباط مسرحي، التحكم بالجموع والكومبارس الكبير، لكن إصرار المخرج على تصوير الأجواء البائسة كان خياراً ذا حدين، فالإضاءة الخافتة طغت على المشاهد وتم التركيز على عناصر البيئة الفقيرة وأحياناً البشعة بشكل مبالغ به خاصة في البيوت وإهمال جمالية الضيعة وخضرتها ومناظرها الطبيعية. فصحيح أن كثيراً من القرى فقيرة لكن أي أحد يعرف كيف تكون هذه البيوت جميلة مصنوعة من المواد المتوفرة في البيئة من حجارة وخشب ومزينة بالنباتات والورود، ومن غير المفهوم تصويرها كبيوت المخالفات، وكان من الممكن التعبير عن الشقاء والمعاناة دون تشويه الأمكنة. وقدم معظم الممثلين أدوارهم ببراعة وجعلوا الناس تتأثر وتتعاطف معهم وتصدقهم، لكن لم يخل المسلسل من مطبات خاصة في البناء الدرامي. المماطلة في النصف الأول من المسلسل خلقت مللاً زاد مع رتابة الأحداث والتركيز الكبير على رسائل يوسف والتي رغم معانيها العميقة لكنها استهلكت جزءاً كبيراً من الوقت وطغى عليها طابع سوداوي كئيب. كما أن المسلسل يقوم بتغيير مساره فجأة، ففي الحلقات الأولى تبدو القصة عن استقبال النازحين القادمين من ضيعة مجاورة في المدرسة والعلاقة المتوترة معهم بين مرحب ومستنكر لوجودهم وبين من يريد استغلالهم ومن هو خائف منهم. لكن هذا المسار يختفي تماماً ليحل محله مصائر عائلة يوسف وتحولات فرج. كما اختار النص أن يبقي مكان القرية “غامضاً”، لكنه سها عن رسالات متضاربة، فتم تصوير البلدية حيث تعمل رانيا قرب البحر، وتم الحديث عن طريق تهريب قريب إلى لبنان، وتم ذكر طريق الحواش المقطوع مرة. هذه الإشارات تتحرك حول منطقة جنوب طرطوس والتي للمصادفة تكاد تكون من المناطق القليلة التي لم تشهد معارك أو أحداثاً كبيرة خلال السنوات السابقة.
وهناك بعض الهفوات الدرامية غير المنطقية، كالمشاهد التي يكون فيها يوسف على سطح منزله الريفي وحيداً، أو أمام منزل فرج، بل يستطيع الوصول لأي مكان في القرية رغم وعورة الريف والمنطقة الجبلية وهذا لا يناسب واقع الأشخاص ذوي الإعاقة، كذلك عندما تم تصوير منظر الحريق الذي افتعله (فرج) فتم عرض غابات صنوبر محروقة ومن ثم القول إنها أراضي ناس ليتم شراؤها والحقيقة جميعنا نعلم أن هكذا غابات أملاك دولة، حتى وسيلة النقل الوحيدة في القرية غير واقعية.
ربما الأمل الوحيد في مسلسل البطل هو الطفل الصغير (يوسف) والذي كان جده يكتب له كل دروس الحرب حتى لا يضطر إلى تكرارها. فالطفل يوسف رغم أنه ناتج عن علاقة غير شرعية ولا يحمل اسم والده الحقيقي، ولكنه نتيجة طبيعية لويلات الحرب فالجيل القادم هو الأمل بأن يمسح غبار الحرب عن بلد منهك ويبني بلداً جميلاً تليق بتطلعاته.