شيماء شريف
بدأت أزمات التعليم في شمال شرق سوريا مع بداية الثورة السورية وتفاقمت مع تغير موازين القوى وسيطرة الإدارة الذاتية على المنطقة، واستمرت حتى بعد سقوط النظام وسيطرة الفصائل المعارضة على الحكم في نهاية عام 2024. آخر فصول هذه الأزمة التي يدفع ثمنها الأطفال المحرومة من التعليم، يتمثل في قرار الإدارة الذاتية بإغلاق المدارس الخاصة المؤقتة في الحسكة والقامشلي وتحويل الطلاب إلى المدارس الحكومية التي لا تملك أي طاقة استيعابية إضافية، أو إلى المدارس الخاضعة لسيطرتها، على أن يدرس الطّلاب المنهاج الخاص بالإدارة الذّاتية بشكل كامل اعتباراً من العام القادم (2025-2026).
المدارس المؤقتة: حل إسعافي يتحول إلى أزمة
بعد سيطرة الإدارة الذاتية على منطقة الجزيرة السورية (محافظات الرقة ودير الزور والحسكة) منذ حوالي ثماني سنوات، وجد الطلاب السوريون أنفسهم دون مدارس فقد سارعت الإدارة الذاتية للسيطرة على إدارات ومؤسسات الحكومة ومنها المدارس بطبيعة الحال، فيما خرجت المدارس الحكومية عن الخدمة في معظم البلدات والقرى باستثناء ما أطلق عليه “المربعات الأمنية” وهي مناطق بقيت خاضعة للسلطة المركزية في دمشق. تحولت العملية التعليمية إلى ساحة صراع بين سلطتين تحاول كل منهما فرض مناهجها التعليمية، والتضييق على مدارس الطرف الآخر، لتشهد السنوات السابقة فوضى وإغلاقات متكررة دفع الطلاب ثمنها مع ارتفاع نسب الأمية، وازدياد التسرب من التعليم، سواء بسبب تعطل العمليى التدريسية، أو بسبب إحجام الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى المدارس الكردية خاصة مع عدم اعتراف أي جهة دولية أو إقليمية بمناهجها.
هكذا، أصبحت المدارس في المربعات الأمنية الخاضعة للنظام السابق وجهة عشرات آلاف الطلاب في المنطقة، مما سبب اكتظاظ صفوفها بالطلاب بأعداد كبيرة، وصل لمئة طالب في الصف، وتحولت كل واحدة من هذه المدارس إلى تجمّع لثلاث مدارس، ورغم ذلك لم تتمكن من استيعاب الآلاف من الطّلاب من مختلف المراحل الدّراسية.
جاء قرار ترخيص المدارس المؤقتة من قبل وزارة التربية في النظام السابق كقرار مؤقت لتخفيف الضغط على المدارس الحكومية داخل المربعين الأمنيين، فكان حلاً إسعافياً لتدارك ما يمكن تداركه. وتم بموجبه تحويل منازل عادية، ولكن واسعة نوعاً ما إلى مدارس من قبل مستثمرين وتم ترخيصها من قبل وزارة التربية في دمشق وذلك منذ حوالي أربع سنوات، وقد حل هذا القرار جزءاً من المشكلة. لكن بعد سقوط النظام، جاء قرار الإغلاق المفاجئ للمدارس المؤقتة من قبل سلطات الإدارة الذاتية ليثير حالة من الذعر بين الأهالي والطلاب، الذين يخشون على مستقبلهم التعليمي، خاصة أن القرار بدا قراراً سياسياً يتعلق بالخلافات والمفاوضات بين الإدارة الذاتية والحكومة الجديدة في دمشق بعد سقوط النظام ليدفع الطلاب ثمن هذا الصراع بين السلطات مرة ثانية.
رفيف تبحث عن دفاترها
رفيف (اسم مستعار) طفلة في الصف الرابع تعيش في بيت جدها مع عماتها الست، وعمها، وجدّيها بعد أن انفصل والداها عندما كانت في أيامها الأولى. علاقتي الوثيقة مع العائلة بحكم القرابة أتاحت لي الفرصة لمراقبة التطورات في حياة رفيف بعد أن أغلقت مدرستها المؤقتة أبوابها. تركت المدارس المغلقة مئات الأطفال إما بين جدران غرفهم المعزولة، أو في الشوارع التي تعرضهم لمخاطر عديدة مثل الدهس، التدخين، والتحرش، خصوصًا مع انشغال الوالدين غالبًا وراء السعي خلف لقمة العيش بسبب الظروف المعيشية القاسية التي تشهدها مناطق شمال شرق سوريا وتوقف الرواتب الحكومية لآلاف الموظفين.
كانت المدرسة محور حياة رفيف وشغفها الوحيد ربما. كانت تستعرض دفاترها ودروسها أمامي، وكنت أدعي المفاجأة بجمال خطها وحسن ترتيب وظائفها. أرتني رفيف جلاء العام الماضي حوالي ثلاث مرات. في المرة الأخيرة عرضتُ عليها أن أشتري منها الجلاء فرفضت بشدة. قلت لها ذلك على سبيل الدعابة والفرح بطفلة وجدت في الحياة القاسية سبيلاً ومتنفساً تحبه ولابد أن ينفعها مستقبلاً.
منذ حوالي شهرين، أي منذ صدور قرار إغلاق المدارس المؤقتة، تمضي رفيف يومها في البيت. تجد نفسها في وسط ساحة الصراع اليومي لعائلة كثيرة الخلافات. بدأ جدها يقول مؤخرًا إنها تعلمت بما فيه الكفاية ولا داعي أن تعود إلى المدرسة، حتى لو تم حل مشكلة التعليم الأخيرة، ويعتقد أنها في كل الأحوال فتاة وليس لها سوى بيت زوجها في المستقبل. هكذا تمشي الفتيات الصغيرات على خيط رقيق من الأمل لا يلبث أن ينقطع عند أول عثرة.
إغلاق المدارس الحكومية: صراع بين سلطتين
رغم قرار الإدارة الذاتية بالسماح للطلاب باستكمال عامهم الدراسي في المدارس الحكومية الموجودة في المربع الأمني والتي كانت تدرس المنهاج الحكومي، فإن الواقع يختلف كثيرًا عن بنود القرار. بجولة على هذه المدارس نجد أنها مغلقة مثل مدارس العذراء، وأبي تمام، والمتفوقين، وغيرها. وبعد البحث في الأسباب، تبين أن مديرة تربية النظام السابق إلهام صاروخان رفضت آلية العمل هذه بسبب عدم ورود أي توجيهات من وزارة التربية. تواصلت صاروخان مع مديري ومديرات المدارس والمعلمين وطلبت منهم البقاء في المنزل حتى إشعار آخر، بينما عرضت الإدارة الذاتية عليهم العمل بعقود مؤقتة وبحسب سلم رواتب العاملين لديها الذي يصل إلى حوالي ثلاثة أضعاف رواتبهم الحكومية. رفض المعلمون هذا العرض المغري لأن معظمهم يمتلكون خبرة طويلة وسيتقاعدون من وظيفتهم خلال سنوات قليلة ولا يمكنهم التضحية بتعويضاتهم ورواتبهم التقاعدية.
الطلاب والشهادات: قلق وخوف
بالنسبة للطلاب، لم يقبل إلا عدد قليل منهم الذهاب إلى المدارس الكردية ولم يتجاوز العدد الثلاثة أو أربعة طلاب من أصل الآلاف. فقد فضل أهالي الطلاب انتظار حل شامل وجذري لهذه المشكلة. قال لي بعض أهالي الطلاب إنهم لا يستطيعون إرسال أولادهم إلى مدارس لا يمكنها تصديق شهاداتهم في نهاية العام بختم مديرية التربية الحكومية. ما لا يقال أيضاً، هو التخوف القديم من المناهج “المؤدلجة”.
أكبر المتضررين من هذا القرار كانوا طلاب الشهادتين الأساسية والثانوية. كانوا قلقين ومحتارين بين متابعة دروسهم الخاصة ومراقبة الأخبار على فيسبوك ترقباً لأي قرار جديد، وبين ترك العام الدراسي وتأجيل تقديم الامتحانات إلى العام القادم. المحظوظ منهم من يمتلك أقارب في محافظات أخرى يمكنهم استقبالهم لتقديم الامتحان. وفي حين سجل الطلاب للتقدم إلى امتحانات الشهادتين الأساسية والثانوية في جميع المحافظات الخاضعة إلى إدارة الحكومة المؤقتة، لم يتمكن طلاب شمال شرق سوريا من التسجيل لأن امتحانات الحسكة مغلقة حتى إشعار آخر.
بارقة أمل حتى إشعار آخر
في ظل هذه المستجدات التي طرأت على التعليم الأساسي والثانوي في شمال شرق سوريا، ظهرت بارقة أمل في قطاع التعليم العالي. تابعت كليات الحسكة العملية التعليمية منذ سقوط النظام، ولم يتم تجميد الدوام أو تأجيل الامتحانات. استمرت كليات جامعة الفرات في مدينة دير الزور للعمل وبقيت تابعة لسيطرة الحكومة المؤقتة في دمشق. فإذا كان التعليم العالي نجح في تجاوز الأزمة السياسية بين دمشق وشمال شرق سوريا، لماذا لم ينجح التعليم الأساسي والثانوي؟ ومن سيدفع الثمن؟