الإرادة

بين الحقيقة والوهم.. هل يستمر تحسن قيمة الليرة السورية؟

مادلين جليس

لم يكن سقوط نظام الأسد في سوريا بتاريخ 8 كانون الأول 2024 إيجابياً على الشعب السوري فقط، بل على الاقتصاد السوري المنهك أيضاّ، فكما تحرر السوريون من نظام فاسد دام 54 عاماً تحررت الليرة السورية وتحسنت قيمتها أمام الدولار الذي تراجع بشكل واضح مقارنة مع مرحلة ما قبل السقوط.

ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن شهدت وماتزال الليرة السورية تشهد تحسناً واستقراراً نسبياً فقد ارتفعت قيمتها أمام الدولار بحوالي 40 بالمائة خلال ثلاثة أشهر.

الأمر الذي انعكس بشكل إيجابي وواضح على الأسعار وتحديداً أسعار المواد الغذائية التي انخفضت بنسب وصلت ما بين 40% و50% كما انعكس إيجابياً على أسعار الكثير من المواد المستوردة بكل أنواعها في الاقتصاد السوري. هذا التغير أثار تساؤلات كثيرة حول إن كان هذا الاستقرار وهمياً أم حقيقياً؟ كما أنه يثير تساؤلات أكثر حول إمكانية استمراره في المدى الطويل؟ .

يجيب الخبير الاقتصادي الدكتور أيهم أسد عن هذه التساؤلات، ويؤكد أن هناك الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية الداخلية والدولية الموضوعية التي ساهمت فعلياً في تحسن سعر صرف الليرة السورية إلى الآن والتي دعمت ذلك التحسن، وقد كان وجود العديد من الظروف لاحقة الذكر من العوامل الأساسية التي رفعت سعر صرف الليرة السورية سابقاً، وبالتالي فإن زوالها يعني زوال سبب الارتفاع والعودة إلى سعر صرف منطقي أكثر.

انهيار نظام الفساد

يحدد أسد العوامل التي دعمت تحسن قيمة الليرة السورية، ويأتي أولها برأيه انهيار نظام الفساد المالي والنقدي وشبكاته المرتبطة بنظام الأسد السياسي الذي كان يسيطر على العملة الأجنبية بطرق فساد عميقة وسرية وغير شرعية ويكدسها لصالحه ولصالح المرتبطين معه، وإلغاء نظام تمويل المستوردات عبر منصة التمويل التي كان يديرها البنك المركزي ظاهرياً والتي كانت فعلياً أحد قنوات السيطرة على القطع الأجنبي من قبل شبكات النظام السياسي، تلك المنصة التي قيدت المستوردين وتحكمت بعلميات تحديد القطع الأجنبي للمستوردين الأمر الذي سهل عمليات الاستيراد أكثر وحررها من القيود الإدارية وقيود الفساد.
إضافة إلى إلغاء تعهد قطع التصدير الذي كان المصرف المركزي يلزم من خلاله المصدرين بوضع نسبة من عائدات صادراتهم في البنك المركزي حيث أرهق ذلك التعهد المصدرين السوريين سابقاً، وبالتالي أصبح المصدر يحتفظ بكامل عائداته من القطع الأجنبي، والسماح للمستوردين بتمويل وارداتهم بالقطع الأجنبي من مصادرهم الخاصة التي يرونها مناسبة شريطة عدم تعارض طرق التمويل مع القوانين المتعلقة بغسيل الأموال محلياً ودولياً الأمر الذي حرر عمليات التمويل من القيود.
ويذكر أسد أن التعليق الجزئي للعقوبات الأمريكية والأوروبية على بعض الأنشطة المرتبطة بالحكومة السورية والسماح بتحويل الأموال عبر البنك المركزي السوري الأمر الذي دعم عمليات تحويل الأموال الدولية لتلك لأنشطة دون مخاوف من فرض العقوبات، كان أحد أهم عوامل دعم تحسن الليرة السورية، يضاف له السماح لشركات تحويل الأموال بتسليم الحوالات الواردة إليها من الخارج بالدولار أو الليرة السورية حسب إمكانياتها مما سهل أكثر عمليات تحويل الأموال.
أيضاً تسعير الحكومة للمشتقات النفطية والغاز بالدولار مما ساعد على السماح لتداوله رسمياً كعملة موازية لليرة السورية دون الخوف من قوانين العقوبات المفروضة على تداول القطع الأجنبي، وإجراءات تقييد السيولة المصرفية التي يقوم بها مصرف سوريا المركزي من خلال تقييده الكبير لعمليات السحب بالليرة السورية الأمر الذي أدى لحالة نقص عرض الليرة السورية ويدفع بالكثير من الناس لبيع الدولار، إضافة إلى الانتشار الكثيف والواسع للتعامل بالدولار علناً في الاقتصاد دون التعرض لعقوبات التعامل بالعملة الأجنبية التي كانت سائدة سابقاً، والانفتاح السياسي العربي والدولي الكبير على نظام الحكم الجديد في سوريا مما يعطي انطباعات سياسية واقتصادية إيجابية حول مستقبل الاقتصاد.

عودة طرق التجارة

كما يؤكد الدكتور أيهم أسد أهمية عودة عمليات التصدير للكثير من السلع السورية إلى دول الجوار الإقليمي كالأردن ولبنان والخليج وتركيا بعد إعادة فتح المعابر النظامية بينها وبين سوريا مما سمح بعودة تدفق الدولارات إلى الاقتصاد، ورفع تركيا القيود المفروضة على تصدير البضائع والمنتجات السورية إلى داخل الأسواق التركية، إلى جانب فتح أراضيها لإعادة تفعيل حركة تصدير البضائع عبر الترانزيت إلى الدول الأجنبية.
إضافة إلى عودة عمليات النقل والشحن الجوي بين سوريا والعديد من دول العالم مما يعني إعادة تفعيل عمل شركات ومكاتب الطيران التي تدعم الاقتصاد بالنقد الأجنبي، والأهم من ذلك كله انتهاء فرض الأتاوات المباشرة على كبار التجار والصناعيين والمستثمرين ورجال الصاغة من قبل الأجهزة الأمنية للنظام السابق، وانتهاء فرض الأتاوات على عمليات الشحن والنقل من قبل حواجز الجيش والأمن التي كانت منتشرة بكثافة بين المحافظات.

الاستقرار إلى أين؟

 يبدو أن تفاعل تلك العوامل الموضوعية مع بعضها البعض حتى الآن مازال مستمراً ويحدد بنسبة كبيرة انخفاض واستقرار سعر الصرف، لكن برأي الخبير فإن ذلك لن يدوم طويلاً، فهو استقرار على المدى القصير، كما أنه لا بد من التأكيد على أن جزءاً من انخفاض سعر صرف الدولار قد يكون عائداً لأسباب المضاربة والسيطرة على أكبر كمية ممكنة من الدولار من قبل بعض الجهات المضاربة.
وعلى الرغم من التفاؤل الاقتصادي الواضح لدى المحللين والاقتصاديين، إلا أن استمرار تحسن في قيمة الليرة السورية غير ممكن على المدى الطويل، كما يؤكد أسد، لأن حماية قيمة العملة المحلية تتطلب إعادة الإنتاج والتصدير وتخفيف فاتورة استيراد المشتقات النفطية واستعادة منابع البترول الأساسية وإعادة تنشيط حركة السياحة واستقطاب استثمارات محلية وعربية ودولية وتحديداً في ملفي الطاقة وإعادة الإعمار (عودة مصادر القطع الأجنبي) مضافاً إليها استقرار الحالة السياسية والأمنية والعسكرية في البلاد.
وبالتالي وبحسب أسد فمن دون العمل على تلك العوامل الجوهرية الداعمة لقيمة الليرة السورية فإن حالة التحسن والاستقرار النسبي تلك لن تدوم طويلاً وعندها يمكن القول إن التحسن في قيمة الليرة كان وهمياً ومرتبطاً بتغير ظروف مؤقتة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *