عبد الكريم عمرين
كان الطريق إلى الوعر في ذاك الصباح في أول الخريف هادئاً نسبياً، والباص الصغير الذي يحمل معلمات المدرسة الخيرية النموذجية يتهادى مقترباً من حاجز الشؤون الفنية. كانت الشمس تدخل من النوافذ بشكل متقطع ومتواتر من خلال أغصان أشجار الكينا والسرو الضخمة التي تحجبها أحياناً. رفع السائق أبو عبدو صوته متطلعاً في مرآة عاكسة كبيرة نسبياً مخاطباً راكبات الباص: “يا أوانس، الله يخليكن، اللي معها ممنوعات وشغلات بتلفت الانتباه والنظر تخبيها منيح، أو ترميها من الشباك، ما بدنا وجع راس مع جنود الحاجز، يوستر حريماتكم ويوستر عليكن، ترى أنا كمان بتحاسب وبسمع كلام وسخ من جنود الحاجز”.

كانت زهرة، معلمة اللغة العربية لطلاب الصف السابع، تقرأ في سرها فاتحة الكتاب والمعوذات. وقبلها حين صعدت الباص وجلست في مقعدها، قرأت وهي مغمضة العينين برجاء وتوسل إلى الله سورة يس، وكررت آية: “وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون.” وخاطبت ربها متبتلة: “يا رب يامن أمره بين الكاف والنون، يا صاحب المشيئة، أرجوك ربي وأتوسل إليك أن تعمي أبصار وبصيرة جنود الحاجز، عما أحمل في حقيبتي…” وقطع دعاءها صوت السائق: “مشان الله يا أوانس قرّبنا نوصل، اللي معها شي ممنوع ترميه من الشباك، اللي معها دهب بأيديها، برقبتها تخفيه، تغطيه حتى ما ينكشف، والله بياخدوها وبحطولها تهمة ع كيفهن وبيسرقوا كل شي معها” ولما لم يسمع أية إجابة من المعلمات تابع غاضباً: “لك يا نسوان عم تسمعوا؟ فهمتوا؟!”
ضحكت إسراء بصوت مسموع وخاطبت السائق: “هههه شو أبو عبدو كنا آنسات ومعلمات صرنا نسوان؟! لك ما معانا شي، حفظنا التعليمات والتوجيهات والتشددات وفذلكات وشتائم الحاجز، يلعن أبوهم، نحنا فايتين على مدرستنا نعلم ولادنا، وظيفتنا التدريس، العمى ما عاد يفهموا ولا يبطلوا تهديدات وخنفشاريات أولاد الكل…” ثم بلعت الكلام، وجلست بغضب والدمع يطوف في عينيها.
ازداد خفق قلب زهرة وامتقع لونها، ورتبت ما بداخل حقيبتها للمرة الأخيرة حتى تبدو محتويات حقيبتها طبيعية، وبفوضوية عادية كحقائب كل النساء: مفاتيح، مبلغ صغير من المال، علبة محارم صغيرة، فوطة نسائية مغلفة بكيس نايلون أسود، بُكل شعر، قصّاصة أظافر، مطاطة شعر، مشط ومرآة، قلم حمرة، طبشور للكتابة على اللوح بطول نصف أصبع، التزاماً بالتعليمات الأمنية، سندويشة لتأكلها عند الاستراحة في المدرسة، حبة سيتامول واحدة ليس أكثر، وقلم حبر ناشف واحد وقلم رصاص وأشياء أخرى.
وقف الباص عند الحاجز تماماً، شخصت عيون المعلمات يستطلعن عناصر الحاجز من الجنود، فقد صرن يعرفنهم، ويعرفن طباع كل منهم في التفتيش. فتح أبو عبدو الشباك بجانبه وألقى تحيته على الجنود وهو يهرش رأسه: “صباح الخير يا أوادم.” ولم يرد أحد من الجنود على تحيته، فانشغل السائق بحك أذنه اليسرى بإدخال أصبعه الصغير فيها وتحريكه بحركة سريعة ثم أخرجها ومسح ما علق بها بقميصه وفتح باب السيارة آلياً. صعد الجندي القصير السمين إبراهيم ووقف بباب السيارة مخاطباً المعلمات: “ها المرة راح كون كويس معكن رغم أنكن ما بتستاهلوا الرحمة، ما راح فتشكن كلكن، راح فتش خمسة بس منكن.” أطرقت المعلمات رؤوسهن خوفاً بل رعباً، وحبسنَ أنفاسهن. أمسكت زهرة بحقيبتها كرد فعل عنيف من خوف رهيب. قال الجندي إبراهيم: “تعالي أنتِ، وأنتِ وأنتِ… انزلوا لتحت لأفتشكن مع حقائبكن.” وكانت زهرة من الخمسة اللواتي اختارهن.
بعد أن نزلت المعلمات الخمس من الحافلة، وفتّش الجندي حقائب أربعة منهن بوجه متجهم وفضول متوفز، جاء دور زهرة التي فتحت حقيبتها وأفرغت ما بداخلها على الأرض، ثم بدأت تعيد ما بداخلها قطعة فقطعة بعد أن يعاينها الجندي ويوافق على إعادتها بحركة من رأسه. أعادت المشط ومرآة صغيرة مدورة جرداء، ثم محرمة ورقية متهالكة ومهترئة، قلم ناشف أزرق، قلم ناشف أحمر، قلم رصاص خشبي بطول خمسة سنتيمتر، زر مانطو كبير بلون كحلي، قطعة من علكة منطاد الوطنية الصنع، قداحة صينية الصنع بضوء جانبي لونها أصفر، مفتاح البيت، محفظة النقود خاصتها بنية اللون ومهترئة حوافها. أخرجت منها ثلاثمائة ليرة ورقية من فئات نقدية مختلفة. كانت زهرة ترتعش وتتعرق وترتجف….
يتبع.
