منصة إرادة- شيماء شريف
غادة عبد الصمد الحوّاش سيّدة ستينيّة نالها قسط وفير مما تقاسمته أمّهات سوريّات من فقد الأبناء. لم يسبق لها الإنجاب، إلّا أنّها عاشت عذاب الفقد في ثلاثة من أولادها الّذين ربّتهم. تزوجت غادة لفترة قصيرة، وتمّ الانفصال دون إنجاب أولاد. لكن الأم التي لم تنجب، صارت أماً، فأحبت وربت وسهرت وتعبت… وكمثل أمهات سوريا، واجهت مصير الفقد المحتوم، والانتظار الذي يعشش في القلب أملاً، والثياب المتشحة بالسواد… وذلك الحزن الذي يستوطن قلباً لا ينسى. قلباً بحجم وطن.

أول الورود
بعد فترة أصاب السرطان شقيقتها وتوفيت مباشرة، لتتكفل غادة برعاية سليمان ابن شقيقتها. كان سليمان لا يزال بعمر البراعم. تقول غادة: “كان وجهه صورة مطابقة لوجه شقيقتي، عيناه صغيرتان كثيفتا الرموش، شعره أشقر، وغمّازتاه لوزتان سقطتا في كوب حليب. كان يفترش صدري ويتغطى بذراعي. رائحة شقيقتي أجدها في طفلها الّذي لم يتمّ عامه الخامس.”بعد سنوات، صار الطّفل رجلًا تزوج وأصبح له عائلة. سافر إلى تركيا، وقرر العودة لثقته بأنّه ليس مطلوباً، ولم يشارك حتّى في المظاهرات السّلمية فضلاً عن حمل السّلاح. عاد ليبقى قريبًا من عائلته وليحضر ولادة زوجته ويحمل طفله بين ذراعيه. التقطته يد الغدر عندما عبر نهر الفرات عند مدخل مدينة دير الزّور. اقتطفوه كما تقطف الوردة وتمزّق أوراقها وتذهب هباءً مع الرّيح، لتفقد غادة ربيبها سليمان داوود العلّوش، ولم تعرف عنه شيئًا بعد عام 2013.
لم يكن اعتقال سليمان الفاجعة الوحيدة ولا الأخيرة في حياة غادة. لغادة أيضًا ابن أخ ثانٍ اسمه صهيب. كان صهيب يصغر سليمان سناً بحوالي سبعة أعوام. انفصل والداه وهو ما يزال جنينًا في رحم أمّه. وفي أوّل يوم له في الحياة، تخلت عنه والدته وأرسلته إلى بيت جده أهل أبيه، لتضمه غادة إلى سليمان وتتعهده بالرّعاية. وأرضعته بعض نساء العائلة. كان له الحظ الأوفر من الحنان بسبب صغر سنّه، وترعرعه يوماً بعد يوم تحت عناية عيني عمّته غادة. لم يكتب له النّجاح في الدراسة وعمل في سنٍ صغيرة. تقول غادة عنه: “لم يكن صهيب شقيًا ولا مشاغبًا، كان هادئًا ومسالمًا. حتّى في المهد كان قنوعًا لا يبكيه الجوع ولا المرض إلّا نادراً وكأنّه يعرف بأنّ لا فرصة للدلال لمن تخلّت عنهم أمّهاتهم”.
االانتظار الطويل
مرّت السنوات وبدأت الثورة السوريّة وخرج صهيب يهتف للحريّة. كان حينها متزوجًا وأبًا لطفلين. تمّ اعتقاله لأوّل مرة في عام 2011. بقي في الأمن العسكري شهرين قبل أن يتم تحويله إلى دمشق وإيداعه في سجن عدرا. بعد عام من السّجن، تمّت محاكمته من قبل قاضية لا يعرف اسمها. قالت له بالحرف الواحد: “هالمرّة سماح رح طالعك براءة” هكذا بكلّ بساطة كان النّاس يحكم عليهم دون جريمة ولا شهود ولا أدلّة، إمّا بالموت أو السجن، أو البراءة على أهواء القضاة الّذين درسوا عن العدالة ولكن لم يطبقوها. لم تسأله القاضية عن أظافره الّتي اقتلعها المحقق، حكمت عليه بالبراءة دون أي سؤال أو جواب. ليخرج صهيب ويعود إلى عائلته، ويا دار ما دخلك شر. استأجر مقهى وبدأ يعمل فيه. كان فراس العراقيّة حينها مجرد مخبر للنظام ولم يترقَّ ليصبح زعيم ميليشيا الدفاع الوطني في دير الزور. كان مقهى صهيب يعجب فراس وحاول أن يضايقه ليستولي على مصدر رزقه الوحيد. عندما تمسّك صهيب بالمقهى، قام فراس العراقية باتّهامه بالإرهاب وبأنّه يخبئ السلاح في هذا المقهى. تم اعتقال صهيب للمرة الثانية وإلى الأبد. فتش الأمن المقهى والبيت واعتقلوا زوجته. خرجت زوجته بعد أن حققوا معها واحتفظوا بهويّتها الشّخصية وطالبوها بمراجعتهم في اليوم الثّاني، ولكنّها فضلت أن تنجو بنفسها وتهرب إلى إدلب بعد كلّ ما شهدته من مضايقة وإهانة وضرب خلال الاعتقال. أمّا صهيب فلم يعد منذ ذلك الحين. ومع هروب الأسد وسقوط نظامه، عاد الأمل لعائلته ولغادة الّتي ربّته. فتّشوا عنه في صور المعتقلين المحررين، وفي قوائم المعتقلين الّذين قضوا في المعتقل، ولكن دون جدوى. حتّى في البرنامج الّذي خصصته الحكومة المؤقتة الجديدة لذوي المعتقلين لمعرفة تواريخ اعتقال وموت ذويهم، لم تجد غادة أيّة معلومات عن صهيب أو سليمان.
بين حاجز النظام وحاجز داعش
توفي شقيق غادة شجاع بعد أن كبر صهيب وسليمان واستقلّ كل واحد منهم مع أسرته الصّغيرة. لم تستطع أرملة شجاع تحمّل عبء تربية الأطفال وحدها والإنفاق عليهم. تركت أطفالها الخمسة لعائلة الأب لتقوم غادة بتربيتهم. كان عمر أكبرهم مريم أربعة عشر عامًا والصّغيرة كان عمرها بضعة أشهر فقط. تقول غادة: “لقد سخّرني الله لخدمة وتربية هؤلاء الأطفال، ربما لهذا لم يرزقني بأطفال من رحمي. ربما لو أنجبت لما تمكنّت من حبّ أولاد شجاع، وسمير وغزوة كما أحببتهم” كان يزن ابن أخيها شجاع ابن سبعة أعوام حينها. ومع بداية الثورة وخروج معظم أحياء مدينة دير الزّور عن سيطرة جيش الأسد، وسيطرة داعش عليها، كان يزن مجرد طفل في الثّانية عشرة من عمره. تزوّجت شقيقته الأكبر منه وسكنت في المنطقة الّتي يسيطر عليها النّظام. كان يزن يزورها بين الحين والآخر ليطمئنّ على صحتها. كانت آخر زيارة له إلى شقيقته عند ولادتها لطفلتها الأولى، ولكنّ دوريّة لداعش اعتقلته ووجهت له تهمة التّخابر مع النّظام عندما عاد إلى بيته. آخر الأخبار الّتي سمعتها غادة عنه كانت من معتقل عند داعش صادف وجوده في سجنهم في الميادين وبأنّه رأى يزن هناك وتحدّث معه. ليذوب يزن من الوجود كما يذوب الملح في الماء منذ عام 2014. لو كان يزن بيننا اليوم لكان في عمر الخامسة والعشرين، وتخرّج للتو من جامعته وربّما يبحث عن عروس أو يفكر في السّفر. ولكن الجلّاد لم يمهله، حتّى أنّه لم يريح غادة ولا عائلته من عذاب التّفكير كلّ يوم ومحاولة حلّ اللغز المستحيل، لغز الحياة والموت أو ما بينهما من اعتقال وتعذيب.
اللغز المستحيل
هل الموت المبكر مرض وراثي أم أنّ اليتم جرح تتوارثه الأجيال؟ أن يموت إخوة غادة ويتركوا خلفهم أطفالًا ليموت كل واحد منهم قبل أن يعيش شبابه أو يستوفي ربيع عمره في معتقلات الأسد الوحشية، أو في سجون داعش. ثمّ هل هذه السّجون جميعها للدكتاتورين الأب والابن؟ هل حافظ وبشار الأسد كتبوا كل التقارير، أو عذّبوا كلّ المعتقلين، أو ذبحوا كلّ الضّحايا، وألقوا كلّ البراميل وحدهم؟ أم أنّ المأساة السّورية وصمة عار في جبيننا كلنا؟
هل من ضمان يمكن أن يعمل عليه الشّعب السّوري حتّى يعيش أطفال سليمان وصهيب وبقية المعتقلين والضّحايا حياة كريمة، ولا نعود بعد سنوات لنبحث عنهم في معتقلات جديدة؟
