الإرادة

صديقي من درعا: أتمنى أن تجد أخوتك

مياس سلمان

يعود بي الزمن إلى منتصف العام/2018/ عندما حالفني الحظ لأكون بمخيم يضم عشرين شخصاً، عشرة من ذوي الإعاقة وعشرة من غير ذوي الإعاقة، نصفهم ذكور ونصفهم إناث، لمدة عشرين يوماً في فندق الفردوس بدمشق تقيمه إحدى منظمات الأمم المتحدة العاملة في مجال الإعاقة.

كنت أعتبر هذا الأمر فرصة ذهبية لا تعوض، فرغم دراستي الحقوق إلا أني لم أغادر القرية منذ عام 2010، وأنا أعيش ببيئة منغلقة في ريف طرطوس لا تضم طوائف متنوعة. كنت أعتبر التحدي الأكبر الذي سوف أواجهه هو كيفية التعامل مع أشخاص من محافظات مختلفة وطوائف وبيئات مختلفة. كانت من شروط المخيم أن يكون هناك شخص من ذوي الإعاقة وشخص من غير ذوي الإعاقة في غرفة واحدة طوال فترة التدريب يعيشان معاً ويحضران التدريبات الجماعية الطويلة معاً.

سافرت إلى دمشق وأنا بقمة التفاؤل والأمل، فهناك شاب من غير ذوي الإعاقة من طرطوس اسمه صلاح ظننت أنه بالتأكيد سيكون معي بالغرقة. وصلت الفندق وأنا مملوء بالزهو والثقة، فأكبر مخاوفي ذهبت. استقبلنا بشار أحد مشرفي المخيم والذي كان يتواصل معنا في الفترة الماضية من أجل ترتيبات الوصول وطلب مني الهوية لأجل حجز الغرفة، كلمته بثقة كبيرة أكيد صلاح معي بالغرفة؟

فأجاب لا والله معك سائد من درعا، خمنته يمزح في البداية، ولكن عندما تيقنت من الأمر، ارتجف قلبي وأصابني إحباط كبير. بطبيعة الحال، حاولت التماسك والتظاهر أن كل شيء طبيعي. قال لي بشار “بس يصل سائد، رح يدق الباب، أنت عليك مهمة فتح باب الغرفة واستقباله”.

 صعدت الغرفة، فتحت الباب ووقفت هناك عاجزاً عن الدخول، تأملتها جيداً حتى شعرت أنها أشبه بسجن رغم أناقتها. مضت ساعة من الانتظار المقرون بالخوف. كانت قد مرت سبع سنوات من الموت وخمسون سنة من الخوف، زرعت فينا مشاعر بدائية منها أن ابن طرطوس وابن درعا “إخوة أعداء بالضرورة”. حاولت أن أتصفح الإنترنت لأخفي قلقي وأستعيد التوازن. كنت أردد في نفسي، أنا ليس لدي مشكلة، ولكن ماذا عنه؟ بالتأكيد سيرفضني ويتهمني وربما يهاجمني. شعرت بغربة كبيرة حتى كدت أختنق. تمنيت لو أني لم أغادر قريتي. جلست أتذكر طريق السفر من طرطوس إلى دمشق وأحزنني أن عدد الأبنية المدمرة على طرفي الطريق من حمص إلى دمشق أكثر بكثير من عدد الأبنية السليمة. شعرت أن أي تواصل بيننا سيشبه هذه الأبنية وسيكون محكوماً عليه بالهدم مسبقاً.

  فجأة، دق الباب، قمت وفتحته وأنا أحاول تقليل الاتصال البصري قدر الإمكان. كان شاباً في مقتبل العمر، عشرون عاماً، طويل وممتلئ الجسم، تظهر عليه بعض ملامح البراءة والطفولة. قال بابتسامة كبيرة، مرحبا أنا سائد.

تبادلنا السلام ودخلنا الغرفة. كان يبدو عفوياً جداً، وبدوري حاولتُ أن أبدو طبيعياً. اختار كل منا سريره ودرفة خزانته، ورتبنا أغراضنا، ثم جلسنا ساعتين في صمت، كغرباء في سجن لا نتكلم إلا الضروري وبحذر شديد لم يعد من الممكن إخفاؤه.

وأخيراً أتى موعد العشاء وطلبوا منا النزول. شعرنا أننا سنخرج للحرية، لمكان مفتوح يكسر خوفنا من الغريب الذي سينام هذه الليلة على السرير المقابل. بعد العشاء، عدنا إلى الغرفة. أخبرني أنه يسهر كثيراً بسبب متابعة عمله بالتصوير والمونتاج. رغم هواجس ما قبل النوم، غلبني التعب ولم أستيقظ حتى صباح اليوم التالي حيث ضحكت من مخاوفي وتفاهة تفكيري عندما فتحت عيوني ورأيته نائماً كملاك وديع على سريره.

سائد، الشاب الطيب القلب، الشهم، تعلمتُ من معرفته بعد ذلك ألا أحكم على شخص قبل العيش معه. قضينا عشرين يوماً كالإخوة لم تحدث بيننا أي مشكلة فهو خلوق، لطيف ومتواضع. شعرتُ أنه عربي أصيل يؤتمن على الروح والعرض فمن يملك الإنسانية يملك كل شيء. ومع أني والحمد لله لا أحتاج المساعدة في أموري الخاصة لكن كان يعرض مساعدته وعندما أطلب منه شيئاً يلبيني بكل تواضع رغم فرق العادات، فهو يحب شرب الشاي وأنا المتّة هو يحب الموسيقى الحديثة وأنا القديمة الهادئة، ولكن كان كل منا يحترم اختلاف وطقوس الطرف الأخر.

من يومها وطوال فترة المخيم لم أقفل باب خزانتي. كنت أضع نقودي وأغراضي الشخصية بكل مكان فأنا متأكد من أمانته، وقد أصبح صديقاً حقيقياً، أروي له ذكريات طفولتي وأسراري. امتلكت الجرأة بعد ذلك لأخبره كيف أن لإعاقتي فضلاً عليّ حيث ساعدتني كي لا ألتحق بالجيش وأشارك بالحرب التي لا أفهم والتي أحذت مني أخي. تعاطف معي وأخبرني أنه وحيد ولديه أخت وحيدة. لم ينقطع التواصل بيننا واستمر طوال السنوات اللاحقة وتخللها عدد من اللقاءات في دمشق.

خلال الأسبوع الماضي، وبعد انتصار الثورة بيومين، تفاجأت عندما رأيتُ منشوراً له يدعو من يعرف أي شيء عن أخويه المعتقلين في السجون السورية للتواصل معه. شعرت بصدمة كبيرة وبحزن ممزوج بالحب، أرسلت له رسالة تمنيت فيها من أعماقي أن يكون إخوته بخير وعلى قيد الحياة وألا يذوق لوعة الفقد مثلي. تمنيت لو تربينا أنا وهو على أن يكون لديه الثقة والجرأة ونحن نسهر لأيام طويلة ليحدثني عن إخوته وذكرياته معهم.

ليبقى السؤال الأخير في مخيلتي هل سنعود جميعنا من جديد سوريين وسوريين فقط؟ هل سنصل بعدها إلى وطن يجمعنا من جديد ينعم الجميع فيه بحق الحديث بكل حرية ودون خوف وتهديد؟ وهل سيكون بعد تاريخ 8/12/2024 ليس كقبله أم أن عقدة الآخر المختلف ستبقى مزروعة داخلنا؟