الإرادة

ورود متأخرة لاعترافات غير مريحة

مياس سلمان

أتدرك معنى أن تقتل أحلام زوجين يحلمان ببناء عائلة دافئة سعيدة؟ أن تكون سبباً في شقاء أب وأم، ومصدر قلق ورعب لزوجين لم يبلغا العشرين من العمر؟ أن تكون دون ذنب سبب تعاسة عائلة جديدة لم تكتشف حلاوة الحياة بعد؟

أنا… كنت كلَّ ذلك وربما أكثر. كنت سبباً في بداية حزينة لأسرة بائسة تحاول تأسيس حياتها بصعوبة، ليأتيها الكف الأول من القدر فتُرزق بطفل يعاني من الشلل. أبي من أسرة ريفية بسيطة، وحيد لأهله، همهم الوحيد أن يتزوج وينجب أطفالاً يحملون اسم العائلة. لا أدري لماذا يريد الفقراء التكاثر؟ هل هو من أجل الشعور بالبقاء والوجود؟ وكأنهم يخشون أن تنقطع سلالة الأنبياء!

تزوج أبي فور تخرجه من المعهد بأمي عندما كان عمرها ثمانية عشر عاماً في غرفة بسيطة تحوي سريراً وخزانة ضمن منزل العائلة المكون من غرفتين، يفوح الفقر من حيطانها. كانت فرحتهم كبيرة بعد أن علموا بحمل أمي بعد أقل من عام بطفل ذكر سيحمل، حسب فهمهم البسيط، اسم العائلة ومستقبلها.

لا تستطيع أي عائلة سوى أن ترسم في خيالها أنها ستُرزق بطفل جميل وقوي، يكبر بسرعة ليصبح سندهم. لكن في عام 1988، في ذلك الريف، لم تكن هناك مستشفيات أو مراكز صحية، وأقرب طبيب نسائية كان في المدينة التي تبعد عن القرية خمسة وثلاثين كيلومتراً. كانت أمي تزوره بفترات متباعدة.

وأخيراً أتى اليوم الموعود، أو ما يمكن تسميته اليوم المشؤوم، يوم ولادتي في الحادي والعشرين من نيسان. بعد معاناة أمي في المنزل مع قابلة بدائية لمدة عشر ساعات من عسر الولادة، قررت الداية أن أمي تحتاج إلى مستشفى تبعد عن قريتنا أربعين كيلومتراً. وصلت أمي منهكة على الرمق الأخير، وأنا لا أريد الخروج من بطنها؛ أتمسك بها بعنف وأسبب لها أوجاعاً لا تُحتمل. أجرى الطبيب لها عملية قيصرية إسعافية. وُلدتُ أزرق اللون، وقرروا وضعي في الحاضنة، ولكن دفعتُ ثمن معاندة أمي لأول مرة بأن أصبتُ بأذية عصبية تسببت في نوع من أنواع الشلل، ولا يمكن التنبؤ بمستقبلي إلا بعد سنوات.

لم تكن الصدمة سهلة على العائلة؛ فأمي كانت حزينة رغم قوتها، كثيرة البكاء وندب الحظ. كنت أسمعها وأنا طفل وهي تردد: “ماذا فعلت بحياتي لأستحق هذا الشقاء؟ أي ذنب ارتكبت؟”.

أما أبي فقد أصيب بوجع معدة دائم لا يُحتمل. حدثني أنه جرّب أكثر من طبيب وأكثر من دواء دون جدوى، حتى وجد طبيباً سمع قصته وأخبره أن ما يحدث معه حالة نفسية وليست جسدية. اقترح على أبي أن يشرب الكحول (العرق البلدي) كل مساء لمدة شهر ثم يراجعه. أبي لم يكن يطيق العرق قبل ذلك، لكنه أصبح يشرب كل مساء. لم يعانِ بعدها وجع المعدة. ربما كان كل ما يحتاجه أن ينسى سبب مأساته (أنا) لساعات ويغط في نوم عميق. أعلم أني كنت سبب وجعه ووجع أمي، ولكن دون ذنب.

بعد سنة ونصف من المعاناة معي وتجريب جميع أنواع الحلول الطبية والروحية، أصابهم اليأس فقرروا التفكير بإنجاب ولد ثانٍ. فجاء أخي إلى الحياة. كان عمري حينها ثلاث سنوات، وكنت قد بدأتُ المشي بخطوات ثقيلة. كان أخي أبيض البشرة، أشقر الشعر، بصحة جيدة، وعيناه عسليتان. كان عكسي تماماً؛ فأنا أسمر، نحيف، غير جذاب، المرض ينهش صحتي. كان هو هدية لطيفة من القدر لهم بعد معاناتهم معي.

أحبوه كثيراً رغم أنهم لم يقصروا معي، لكن غيرتي الطفولية تجاهه كانت كبيرة. كنت أعتبره عدوي الأول، وأحاول حرمانه بعنف من الجلوس في حضن أبي وأمي. وبعد أن كبرتُ قليلاً، ازدادت الفجوة بيني وبينه. كنت أغار كثيراً من اعتماد والدي عليه في الذهاب إلى الدكان واصطحابه في مشاويره. لا أخفي كم شعرت بالغيظ عندما اشترى له أبي دراجة هوائية بدولابين، ونجح في قيادتها بينما أنا أقود بصعوبة دراجة بثلاثة دواليب. وغيرها من المواقف الكثيرة. كان أبي وأمي يحاولان إفهامه أنه سندي في الحياة، لكنني كنت أرفض الفكرة بشدة وعناد غير مبرر.

كنت أحرم أمي من أبسط حقوقها؛ فكنت أحتاجها في أكلي ولبسي ونظافتي حتى الصف الخامس. لم تستطع التغيب عن البيت ليوم واحد. أذكر يوماً كيف سمعتها تبكي وهي تخبر أبي كيف حدثتني أني اشتهيت عنقود عنب ولم أستطع قطافه. من يومها أصبحت أخفي عنها الكثير من الأشياء، وقررت أن أصبح قوياً مستقلاً، ألملم خيباتي بصمت.

هذه التراكمات زرعت شيئاً من الطموح بداخلي بأن أتحدى الجميع، وأن أثبت لهم أني أستطيع العيش بمفردي دون سند عندما أكبر. بدأ أول طريق الاستقلالية أيام الجامعة، لينتهي بي المطاف بأن أكبر وأعيش في منزل مستقل. لم يكن أحد يتخيل أن أفعل ذلك، وفعلتها. أما الآن، فقد أصبح أبي وأمي أقوى بعدما عشت بشكل مستقل، وتخلصوا من مخاوف “ماذا سيحصل لي بعد رحيلهم؟”. أصبحوا مقتنعين نوعاً ما أني لست أكبر همومهم.

أصبحتُ أملهم، أنا وأخي الصغير الذي يصغرني بخمسة عشر عاماً، بعد أن فارق أخي الجميل الحياة في إحدى ليالي الحرب الدائرة في بلدي منذ عام 2015. كان يوماً غادراً في تشرين، دون وداع. لا أدري كم أصابني الندم على كل لحظة شعرت فيها بالغيرة تجاهه. تمنيت لو أصبح صديقي. وبخت نفسي كثيراً على كل مرة طلب مني نقوداً ولم أمنحه إياها. كل ذلك دفعني للتعلق بأخي الصغير لتعويض وجود أخٍ رحل ولم أتعرف على قيمته. فأصبح أخي الصغير صديقي المقرب، رغم فارق العمر. أغدق عليه بالحب والهدايا والحنان والطيبة، بينما كانت أول هدية قدمتها لأخي الجميل، للأسف، باقة ورد جوري وضعتها على قبره.