عبد الكريم عمرين
مشيتُ وراء الممرضة الشقراء ذات الثديين الكبيرتين، التي كانت تدفع عربة فادي أمامها، وأنا شارد بكلمة “الحب”؛ هذه المفردة التي نطق بها الدكتور غروميكو كعلاج لفادي. بدأت أسأل نفسي: الحب؟! ألستُ والده الذي يحبه، ووالدته كذلك وأخته رادا؟ هل ينفع الحب كعلاج؟ كالضمات والقبلات والعناية الكاملة؟ بالتأكيد الحب نافع للروح، وبالتالي للجسد. كأن الدكتور غروميكو قصد هذا النوع من الحب. ثم خطر لي أن الحب ليس أن تقول للآخر “أحبك”، بل أن تفعل. وأتاني قول الحلاج الصاعق: “إن أحببتَ، ألستَ تبغي أن تكون شبيه محبوبك؟”..
الممرضة الشقراء جداً تسير الهوينى بمريولها الأبيض، وشعرها الذهبي المنسدل على ظهرها الواسع، فتتناثر بضع خصلات صغيرة من شعرها على الأبيض وتتراقص مع مشيتها المتدلعة. تلتفت تارة لتحيي زميلة لها بابتسامة، أو تقف لتمسح رأس فادي وتقول له: “حبيبي”. ثم تواصل مشيتها واثقة الخطى. كانت مؤخرتها تتمايل في مشيتها وتتقافز يميناً ويساراً، فتلفت انتباه زملائها في المشفى؛ حيث يحدق الذكور طويلاً في خلفيتها، التي بدت كراقصتي باليه أو كفراشتين عاشقتين تسبحان في فضاء المشفى، في حين يقابل تحديق الذكور زم شفاه الإناث امتعاضاً أو غَيرة. نعم، قالت لفادي “حبيبي”. صرت أفكر بكلمة “حبيبي” بياء الملكية. كيف يتبادلها الناس؟ وفق أي معنى؟ وبأي منطوق؟ وما الدافع؟ ولماذا؟
لماذا رمى الدكتور غروميكو بهذه الكلمة دون أيةِ إضافة؟ بدأت أكرهه. وقلت لنفسي: ليتني لم أحضر إلى بلغاريا، ولم أقابل هذا الذئب الطبيب. لم يقدم لي أي نفع سوى أقداح الفودكا اللعينة التي بدأت تمخر بي إلى عباب الانتشاء المؤلم. وعند هذه اللحظة بالذات وجدته ينقر على كتفي قائلاً: “أعتذر يا رفيق، لم أوضح لك كيف تقدم له الحب”. لم أرد، بل وقفت أتأمل وجهه ببرود. تابع قائلاً: “الحب كعلاج ليس إبرة بالعضل أو كبسولة أو تحميلة. الحب هو أن لا تعرفَ نفسك إن كنتَ العاشق أم المعشوق، لا تعرف إن كنتَ أنتَ المعوق أم هو. وفي نوبة الاختلاج تكاد لا تعرف أيكما يختلج. إن نوبة الاختلاج هي غيبوبة وارتجاف الروح، ووطءٌ ثقيل طاحن على الجسد. نوبة الاختلاج هي برزخ يفصلك عن دنياك فتغيب… تغيب، تصل سدرة منتهى الله ثم تعود عبرة وعظة وامتحاناً للناس، أو لأقول فادياً للناس كما يسوع الرب”. ثم غادر غروميكو مسرعاً ملوحاً بيده.
يا رب الملكوت، كيف حضر الدكتور غروميكو في اللحظة التي كنت أتذكره فيها وأكرهه؟ يقولون إن حمص مرصودة؛ ففي اللحظة التي تفكر فيها أو تتحدث عن شخص ما، يظهر أمامك فجأة. فتقول له: “ابن حلال، هلأ كنا بسيرتك”. وكأن صوفيا تشبه حمص.
عدت أفكر فيما قاله لي الطبيب غروميكو عن الحب ووصفه للحب كعلاج. خلاصته: الحب هو أن تفنى في المحبوب، أن تحل في المحبوب ويحل فيك. هذا هو مفهوم ومعنى الحب عند المتصوفة. لكن هيهات، أنَّى لنا نحنُ رعاعَ المصلحة والنرجسية والشهوات والأيديولوجيا أن نصلَ إلى هذه المرتبة من السمو؟
بعد سلسلة من الإجراءات الإدارية برفقة الممرضة الشقراء جداً، وصلنا إلى الباب الرئيسي للمشفى. حملت المرأة ذات الثديين الكبيرتين فادي، وضمته وقبلته مودعة. كنت مندهشاً لكمية الحب التي غمرت بها فادي؛ تلك المرأة الممرضة بضخامتها وتزلفها واصطناع حبها للشيوعية، واصطناع جمالها الاصطناعي بقناع من أدوات ووسائل التجميل الفجة، الذي رسمته على وجهها بعناية ومبالغة. أردت أن أعبّر لها عن شكري وامتناني، فأخرجتُ من جيبي قطعة نقدية من فئة الخمسين دولاراً ودسستها في يدها بطريقة مواربة دون أن يلحظني أحد. ألقت الشقراء نظرة خاطفة على الورقة النقدية وابتسمت بود صادق. شكرتني، وشكرتها بدوري. لكن، ولحظة كنت أتلقى فادي منها، أمسكتُ خطأً بأعلى مريولها فانفتح أمامي صدرها العرمرمي اللدن الأبيض، وفوقه يرتاح المسيح على صليبه. ابتسمت لها ابتسامة ذات مغزى، بمعنى أني ضبطتها متلبسة بإيمانها بالآب والابن والروح القدس إلهاً واحداً. قلت لها وأنا أحسد المسيح على مكانه المريح الدافئ البض: “شكراً لكِ من القلب”. قالت وهي تزرر أعلى مريولها: “لا تشكرني، بل اشكر الرفيق يسوع الرب”. وضحكت ضحكة صافية، وصافحتني ثم قبلتني بلطف، واستدارت ملوحة وهي تدلف إلى داخل المشفى. مشت خطوات، ثم استدارت وكأنها تذكرت شيئاً، فرسمت لي بيدها كيساً في الهواء وبداخله شيء ما وأشارت لي أن الكيس بحوزتك، ثم غابت داخل المشفى.
فجأة ظهر السائق العجوز بسيارته المتهالكة. نزل من السيارة، حمل الكيس، وفتح لي باب السيارة فجلست بجانب السائق وفادي ارتاح في حضني. انطلقت السيارة ببطء. قال لي العجوز: “طمّني، هل وجدت علاجاً لابنك؟”. قلت: “تقريباً”. عبس الرجل وفكر قليلاً، ثم بسرعة وبشيء من النزق قال: “كيف يعني تقريباً؟ لم أفهم…”.
يتبع…
One Response
ما أجملك يا عبد الكريم وأنت تنسج من حكاية فادي قصيدة حب، موشاة بالذكريات، وبعض الضحكات والكثير الكثير من الدموع .. نتابع معك تفاصيل الحب مع فادي وننتظر التتمة بشغف وإنصات