عبد الكريم عمرين
قام الدكتور أندريه غروميكو من جديد، وأحضر زجاجة الفودكا وصبَّ لي وله مجدداً، صبَّ كمية أكبر من ذي قبل، وقدم لي الكأس مجدداً، نظر إليَّ طويلاً نظرة تعاطف أو إشفاق، وابتسم ابتسامة صغيرة ثم دفع بكأسه نحو كأسي فصدر صوت أنين الزجاج، وزفر بحرقة وقال بسرعة: بصحتك، وغبَّ كأسه كله دفعة واحدة، فاضطررت لأشرب كأسي أيضاً دفعة واحدة، وقلت له: بصحتك دكتور غروميكو. ضحك الطبيب طويلاً حتى كاد أن يسقط أرضاً، وأخذ يدق بقبضته على طاولته ضاحكاً ويقول لي وهو يمسك دموع الضحك من عينيه: تسميني غروميكو؟ هاه هاه هاه، جعلتني وزير خارجية الاتحاد السوفييتي، وأخذ يصرخ فرحاً: هوراااا… هوراااا.
لم أعرف كيف انقلب الطبيب إلى إنسان آخر، لم أقصد أن أسخرَ منه أو أجرَّه إلى حديث سياسي، أو أتملقه بتشبيهه بأندريه غروميكو وزير الخارجية السوفييتي المزمن، فهو فعلاً يشبه غروميكو إلى حد بعيد. هو متوسط القامة، يصطنع أن يكون وجهه صقيلاً أو مصمتاً بلا ملامح. شعرُه كثيفٌ قليلاً، كستنائي اللون مرتدٌّ إلى الوراء، وطقمه الرمادي يزيد وجهه غموضاً وحيرة، أسنانه طبيعية ومصفوفة باتساق، لكنك تحسبها اصطناعية، مشغولة عند أحد الغجر في محيط ريف حمص، عيناه صغيرتان لونهما كستنائي أيضاً، وعند جيبِ مريولِهِ الأبيض بقعة حبر لقلم فاض في تلك الجيب الواسعة. ما زال الدكتور غروميكو يضحك ويمسك طرف طاولته بكلتا يديه، ويهتز بنطاله الرمادي الفضفاض جراء الضحك.
لم أعرف إن كان غروميكو مسروراً لكونه أشهر جراح عصبية في العالم، أو أن الطبيب الجراح بالغَ في السرور لأنه صار وزيراً للخارجية في دولة تقود أحد قطبي الصراع العالمي التناحري. وحقيقة الأمر أنني ندمت إذ تفوهت بكلمة غروميكو، فقد بدأ الدكتور غروميكو يختلط ضحكه بشجن غريب، ثم صمت صمتاً طويلاً محدقاً في طاولته التي يتكئ عليها، ثم قام فجأة فصب لي وله من زجاجة الفودكا، وقال لي: اشرب، لم يقل بصحتك، بل قال بحزم: اشرب، فشربنا كأسينا دفعة واحدة، وبدأت رياح الفودكا تمخر بنا عباب السكر، سكر ممض لكلينا، لغريبين مطحونين، جمعهما فادي المكسور الجناح المقدّر له أن يكون معوقاً حتى آخر العمر. عقد الطبيب حاجبيه وبدأ يتأملني وفادي على نحو غريب، ثم قام فجأة وصار يضم فادي ويبكي، ثم نظر إليّ وقال: اشتقت لفيكتور، فيكتور ابني الذي فقدته وهو بعمر فادي، ويشبهه إلى حد بعيد، فقدته بسبب التهاب رئوي حاد أودى بحياته، ثم فقدت زوجتي التي رحلت حزناً وكمداً بسبب وفاة ابننا فيكتور. يا الله أي قدر ساقني لألتقي بهذا الطبيب الإنسان، الذي ما زال حزيناً لرحيل ابنه وزوجته رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على رحيلهما. قمت لأعتذر منه، وطبطبت على كتفه، فبدأ يهدأ بعد مواساتي له.
كنت أنتظر أن يخبرني عن علاج فادي، يا لهذا الثعلب الماكر الحنون بآن معاً، لقد طال جلوسي عنده، وطال انتظاري في أن ينطق أو يكتب لي علاج ابني. رفع رأسه ونظر إليّ مستفهماً بشيء من الخبث: لماذا سميتني غروميكو؟ لم أعرف بماذا أجيب عن سؤاله المباغت، لكنني قلت له: لأنك تشبهه، تشبه غروميكو يا دكتور، على كل حال أنا أعتذر، قلتها لك مداعبةً وتحبباً. فجأة صرخ وخاطبني بلهجة مسرحية شكسبيرية: كان الأجدى بك أن تناديني بريجنيف، أو كوسيجين، وأخذ يضحك بشكل مجلجل وتابع: والأفضل أن تناديني فلاديمير إليتش لينين، أو ماركس، وأن تنحني لي باعتباري صاحب كتاب رأس المال، أو كتاب: خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء، وضج بالضحك ودار على نفسه وهو يصطنع إيقاعاً راقصاً في خطواته، وهو يغني أغاني الجيش السوفييتي، ثم توقف فجأة وتقدم نحوي مصطنعاً الرعب والرجاء وقال: لكن إياك أن تسميني بليخانوف أو تروتسكي المنحرف ثم ضحك من جديد.
يا رب الملكوت لقد قطعت آلاف الكيلومترات لأسمع هذه الترهات من هذا المعتوه، لكني استدركت وفكرت ملياً، هو ليس معتوهاً، السيد غروميكو بالنسخة البلغارية مطحون ومقموع، هو وحيد، يعاني من أولئك الأغبياء كتبة التقارير الحزبية والأمنية، خصوصاً، حين يدعى لمؤتمرات طبية عالمية لإلقاء محاضرات حول أحدث طرق الجراحة العصبية، فيستدعونه مرات ومرات للاستجواب، ويسألونه عن الجهة التي دعته، وما علاقته بهم، ولماذا هو بالذات، ويهددونه إن اتخذ قراراً بعدم العودة إلى صوفيا، أو الانشقاق، قائلين سنأتي بك أينما كنت ونطلبك عن طريق محكمة العدل الدولية أو من خلال الاتفاقيات الدولية بإعادة المجرمين إلى بلدانهم…
قطع الطبيب غروميكو تأملاتي واستنتاجاتي ووقف قبالتي بقامة مشدودة وإرادة مصطنعة تسلح بها ناظراً إلى ساعته اليدوية وقال: لقد انتهت استراحتي، دواء فادي كلمة واحدة، فادي علاجه الحُب، ومدّ يده مصافحاً منهياً اللقاء، وفتح باب غرفته وغادر، أما أنا فحملت فادي وتوجهت إلى الباب حيث الممرضة الشقراء جداً ذات الثديين الكبيرين التي كانت تنتظرنا، والتي حملت فادي ووضعته في الكرسي ذي العجلات وقالت لي: اتبعني…
يتبع…