الإرادة

حكاية فادي 23: الكلمات غير المتقاطعة

عبد الكريم عمرين

حين فتحت الممرضة الشقراء باب غرفة الطبيب، وأدخلت فادي على كرسي بعجلات، بدا لي أني سأدخل على مسؤول حزبي كبير أو حكومي، فكل ما في غرفة الطبيب، وقد تأملته وأنا أقف بالباب، بدا فاخر الأثاث والستائر والنوافذ والجدران، كل شيء في غرفة الطبيب بدا لي جديداً جداً، أما هو فقد غطس وراء مكتبه الضخم المصنوع من شجر الجوز، كما لفت انتباهي أنه استدار على كرسي برّام من الجلد البني، كرسي بمسند ضخم وبعجلات، كنت أتأمل غرفته وأنا بالباب منتظراً أن يشير إليّ بالدخول، ولا أعرف كم مضى من الوقت وأنا بالباب، إلى أن صحوت على صوت  الممرضة الشقراء جداً وهي تهز يدي، وهي تقول لي: ما بك؟ ألم تعد تسمع؟ الطبيب يقول لك تفضل، وكررت تنبيهها لي مرتين أو ثلاثاً، لكن وللحقيقة أني سمعت من المرة الأولى لكن هزّ يدها استدعى هز ثدييها البارزين المحشورين في قضبان سوتيانها، وكأني تخيلت، وللحقيقة أيضاً بدون كلمة كأني، فقد تخيلت أنني مدعو من قبل الثديين الكبيرتين لتحريرهما من نير السوتيان الظالم.

تقدمت بخطوات سريعة نسبياً مبتسماً، وكأن في خَطْوي السريع وابتسامتي شيءٌ من الاعتذار على تلكؤي وتأخري بالباب، وقف الطبيب وصافحني، عرفته عن نفسي وولدي فادي، فلم يعرفني عن نفسه، لكنه ابتسم لي ابتسامة أزعر وغمز لي بعينه وقال: أهلاً وسهلاً، تفضل اجلس وأشار إلى كنبة خشبها بني لامع منجدة بقماش سميك أخضر، وبإشارة آمرة منه غادرت الممرضة الغرفة ببطء، وجلس قبالتي على كرسي من حديد وجلد أسود مرحباً بي من جديد، وفطن لشيء ما فقام بسرعة إلى مكتبه الضخم، وأطفأ سيجارته معتذراً، قال: أنا أدخن وهذا وقت استراحتي، ومن حقي أن أرتاح وأدخن، قلت: لا عليك يا دكتور، أنا أيضاً أدخن، وأنا الذي يجب أن أعتذر لاقتحامي خلوتك واستراحتك وقطع تدخينك. ربت على كتفي وقال: لا تهتم، أنا من أعطى التعليمات بأن يحضروا أي مريض من الأجانب إليّ، الأجنبي يأتي إلينا ملهوفاً يريد علاجاً له أو لأحد افراد عائلته، إنه يقطع آلاف الكيلومترات، وينفق آلاف الدولارات، وربما يستدينها، ليجد العلاج لمرضه أو مريضه. عموماً لا تقلق، فقد أطلعتني هذه الشقراء اللعوب ذات الصدر المتميز الذي وقفت أنت بالباب تتأمله بحركته الجيبية وارتجاجه اللطيف هههههه وضحك ضحكة مجلجلة، أطرقت قليلاً خجلاً لانكشافي، أردت أن أقول له: إن هذه المرأة فيها شيء ملفت في صدرها، لكنه عاجلني وكأنه يكمل ما يمور في ذهني وقال: نعم ولديها مؤخرة لطيفة.

لم أعرف ماذا أقول للطبيب، الذي لم يرصد نظراتي فقط، بل قرأ ما يجول في خاطري، وعرف ما أردت أن أقوله له، وتابع كنت أقول لك إن هذه الممرضة أطلعتني على وضع فادي وتشخيصه في سورية والأردن، إن مجرد القول: إن تشخيص المريض هو شلل رباعي متوسط الشدة، نتيجة ارتفاع البيلوروبين وانعدام السكر بالدم وهو بعمر أيام، ودراسة حالته ودراسة نتائج تصوير المحوري الطبقي، والأشعة البسيطة، وتخطيط الدماغ، هذا كاف لأقول إن الجراحة العصبية لا تفيد فادي بشيء، وفادي ليس مريضي كجراح، لكن… وقام إلى طاولته بعد هذه الـ لكن وفتح درجاً فيها وأخرج علبة كرتونية مغلفة وعليها شريط معقود على شكل قلب، وانحنى يخاطب فادي، اليوم عيد ميلاد حفيدتي يا فادي وهي بعمرك، وهذه هديتي لها، والهدية لم تعد لها هي لك، ووضع العلبة في حضن فادي، ففرح فادي، صار يتابع بعينيه انعكاس الضور على العلبة بغلافها اللميع الأصفر، زادت حركة عينيه، وانفعل لأن الطبيب بدأ يحركها أمامه بسرعة، فصار الضوء الأصفر المنعكس يخترق عيني فادي وبدأت تظهر الرأرأة في حركة عينيه. ثم حمل فادي وأجلسه في حضنه وبدأ يداعب أصابع يديه وقدميه ويشدهما يمنة ويسرة، وإلى الأمام وإلى الخلف فتتشنج أصابع فادي، ثم تحسس رأس فادي فاستغرب التحام دروز منصّف رأسه بعمره.

جلست كمن أُسقط في يده، استغربت كل سلوك الطبيب الغرائبي، من نسونجيته وحبه للنساء والحياة، من بساطته وتودده وتواضعه، من إنسانيته في إهدائه فادي هدية حفيدته، ثم من قراره النهائي الحاسم أن ليس لديه الحل أو العلاج، وليس لدى أي طبيب في العالم أي حل أو علاج لإعاقة فادي، دارت الدنيا فيّ، صارت غرفة الطبيب سوداء، وكدت أقع أرضاً. انتبه الطبيب إلى حالتي النفسية الأقرب إلى الانهيار، فسألني ما رأيك بكأس من الليمون؟ لم أرد، لم أرد لأن الدنيا ضاقت بي، كيف سأعود بفادي دون أي أمل ماذا سأقول لزوجتي/ أمه؟ ولرادا أخته؟ للأهل، للجيران، للأصدقاء، للسلك الطبي والصيدلاني الذي كنا نعمل معه وفي وسطه؟ للنقابات العمالية ولليسار السوري، هل أقول إن الرفاق البلغار لاحول لهم ولا قوة في الطب؟ ماذا أقول لأسرتي المحافظة جداً، التي اعترضت على السفر إلى صوفيا، وأوصتني أن أتصدق كثيراً بالمال للفقراء وأقرأ القرآن، وخصوصاً أن ثمة آيات معينة خاصة للشفاء، وألحت علي أن أصلي وأذهب إلى المسجد في مواقيت الصلاة….

وصحوت والطبيب قبالتي يسألني ممازحاً: أتفضل شرب الليموناضة أم الويسكي؟ ابتسمت لدعابته، فأنا أعرف أن لا ويسكي في شوارع وحانات وبيوت صوفيا، وأعرف أنه من المستحيل أن يقدم لي شراباً أثناء دوامه، وصحوت على مزاحه،  بل دخلت قلبي طمأنينة وسكينة، أجبته: أريد ساكي، ساكي أوريجينال، ابتسم وهز رأسه مستفسراً، قلت: هو مشروب ياباني يشبه العرق لكنه يصنع من الأرز وليس من العنب.

ابتعد عني وجلس بجانب فادي، وبدأ يلاعبه ويحادثني، قال: تعال نتكلم بجد، لاشك أن حالة فادي مفهومة طبياً لديك، وأنت على اطلاع بما يكفي على ماذا يعني تخريب الخلايا الدماغية، تموّتها وعدم استطاعة البيولوجيا على تعويضها، لذلك سأعطيك دواء يساعد على تغذية الخلايا الدماغية، سأكتب لك بوصفة كمية كافية تكفيه سنتين على الأقل، وبإمكاني تأمينها لك بالليفا البلغارية وليس بالدولار. لم أرد، فتابع، يبقى أن ألمك كأب لا يمكن ضبطه دائماً، ويجب أن تتمرن على وضع فادي واحتمالات تراجعه بسبب نوبات الاختلاج التي ستزداد مع تقدمه في العمر، ران صمت غير قصير على جلستنا، قلت وأنا مطرق الرأس: طيب هل بإمكاني أن أترك فادي هنا في صوفيا في مراكز متخصصة بإعاقة أمثاله، سمعت أن لديكم مراكز متقدمة جداً، لمساعدة المعوقين بل لشفائهم كلياً أو جزئياً، وانتظرت إجابته، ذهب إلى خزانته، وأخرج قدحي فودكا، وصب لي وله، وقدم لي كأساً قائلاً: بصحتك، أجبته: بصحتك، وشربنا قدحينا دفعة واحدة، أمسكني من ساعدي ونظر في وجهي ملياً وسألني: هل تريد علاجاً لفادي؟ يا رب الملكوت ماذا يسأل هذا الذئب الطبيب؟ هل يتلاعب بي؟ ولماذا سألني مجدداً هذا السؤال، وهو يعرف الجواب حتماً، قلت له بفرح وبشيء من الاستنكار والتعجب: هل يوجد دواء لفادي، قال بثقة: طبعاً.. طبعاً، دواء فادي يا عزيزي هو…

يتبع….