عبد الكريم عمرين
في مكتب المدير الإداري الواسع نسبياً أشار إليّ أن اجلس ليفهم رأييّ، أو سبب صراخي وشتمي للاشتراكية ويكتب تقريره إلى الجهات العليا الصحية والحزبية والأمنية. جلس وراء مكتبه وعقد أصابع يديه ثم أطرق رأسه قليلاً يريد أن يختار مدخلاً معقولاً لاستجوابه لي، فبدا شعره الأشقر مائلاً إلى الحمرة وفوق رأسه استقرت كرة صغيرة من ذرق الطير وقد تيبست، يبدو أن طائراً فوق شجرة ما في المشفى اختار رأس هذا الغبي ليعملها. كان المدير يلبس طقماً فاتح اللون، هو اللون الأخضر، أو كان أخضر لكن السنين وربما الفقر جعلا لون الطقم باهتا جداً، وتحت الجاكيت بدا لون قميصه الكحلي، أو الذي كان كحلياً بأزراره البيضاء الكبيرة نسبياً، بدا مربوطاً عند عنقه بكرافاة حمراء زاهية، كل شيء باهت في هذا الرجل إلا الكرافاة أو ربطة العنق فقد بدت حمراء لامعة من قماش يسمونه في سورية أطلس.
رفع الرفيق رأسه ببطء واصطنع ابتسامة صفراء باهتة أيضاً، وسألني: أنت تصطنع المشاكل هنا يا رفيق، هذا مشفى محترم بنيناه بسواعد رفاقنا العمال. كل الذين بنوا هذا المشفى هم من رفاقنا الشيوعيين الأبطال، والحزب كرمهم بأوسمة يضعونها في عروة معاطفهم في الاحتفالات الرسمية، فيُنظر إليهم بإعجاب شديد، الشيوعيون هنا لم يتوقفوا عند بناء هذا المشفى، بل استمروا في بناء المعامل والمدارس والجامعات والمعاهد الحزبية التي يدرسون فيها الماركسية وبرنامج الحزب الشيوعي البلغاري وتعاليم الرفيق تيودور جيفكوف الأمين العام للحزب، كل ذلك النشاط المحموم الذي نقوم به لكي نتصدى للرأسمالية الإمبريالية بالتعاون مع أشقائنا الرفاق السوفييت… كان الغيظ يأكلني في داخلي، أريد لهذا الببغاء أن يتوقف عن غناء هذه المعزوفة المملة.
وضعت رأسي بين يدي ثم فركت عيني، ففهم اعتراضي واشمئزازي من خطبته، فقال فجأة: أنت تهاجم الاشتراكية في عقر دارها، وهذا يعني أن أفكارك رأسمالية، وسأكتب إلى سفارتك كتاباً أتهمك فيه بمهاجمة جمهورية بلغاريا الشعبية ودول المنظومة الاشتراكية، وأوصي بفصلك من حزب البعث، هنا وقفت وصرخت في وجهه: إذا كنتم ضد الرأسمالية والإمبريالية فلماذا تقبضون من مرضاكم بالدولار؟ ولا تقبلون الدفع بالليفا عملة بلدكم؟ هنا فتح المدير الأحمر الشعر فمه وأغلق عينيه الصغيرتين أصلاً، وبدا أنه يفكر، وتابعت: يا رفيق، وقلتها بتفخيم وخطابية، أريد علاجاً لابني فادي، ومرضه مشخّص في سورية والأردن، أريد أن أعالجه في العيادة العصبية، وإذا أراد طبيب الأعصاب المختص أن يطلب له تحاليل دموية معينة أو صوراً شعاعية أو أي فحص بوسائل تشخيصية أو استشارة طبيب آخر فليس لدي مانع، أما أن تبدؤوا بفحصه من الصفر، في عيادة الأطفال والعيادة الجلدية وربما العيادة النسائية فهذا غير مقبول طبياُ وأخلاقياً واشتراكياً، وغايتكم ابتزاز المريض، أنتم لا تنتمون إلى الاشتراكية، وهنا قلت في نفسي سأكيل له الصاع صاعين، فبدأت أخطب فيه، رداً على خطابه التاريخي لي فقلت: كان من واجبك يا رفيق أن تكون مثالاً يحتذى وتساعدني كأجنبي على أن أدفع أقل من المال وينال ابني العلاج الأكمل، هكذا تحارب الإمبريالية، هكذا نحاربها معاً كحلفاء، لنسقطها في بالوعة التاريخ، هكذا تنفذ تعاليم الماركسية اللينينة وتوجيهات الرفيق تيودور جيفكوف.. واستيقظت من خطبتي النارية على تصفيقه الحار لي وهو يلتفت يمنة ويسرة كأنه في اجتماع سياسي ويريد أن يراه الآخرون يصفق عند ذكر اسم الرفيق تيودور جيفكوف، ثم قام مسروراً مهللاً مرحباً سعيداً فعانقني، ورفع بإصبعيه إشارة النصر العظيم على الإمبريالية.
بعد خطبتي العصماء صار المدير الإداري طيّعاً وليّناً جداً معي، فقام بسرعة وبدأ بتحضير القهوة وضع الماء في سخانة كهربائية شاحبة لكثرة كلس الماء المتصلب حولها، ثم أخرج من خزانته فناجين القهوة، وتبسم لي بود مزيف حين رآني أحدق في محتويات خزانته، فأخرج سندويشة وقدمها لي: تفضل، هذه شطيرة فيها لحم مقدد شغل أمي، أمي عجوز تجاوزت التسعين من العمر، وأنا غير متزوج، لا تظن أني لا أرغب بالزواج على العكس تماماً، أحب أن أتزوج حتى أنجب الكثير من الأولاد، لنزداد عدداً وعدة في مواجهة الإمبريالية، لكن لا أعرف لماذا انسحبت كل الفتيات اللواتي تقدمت لخطبتهن، أو أحببتهن، وكلهن قالوا لي: أنت غبي. لذلك عملت إحصائية شخصية خمنت فيها أن أكثر من خمسين بالمائة من النساء لا يحبونني، هل تعرف لماذا يا رفيق، فلم أرد لكنه تابع: لأنني شيوعي ملتزم.. هنا وقفت أريد أن أغادر دون أن أشرب القهوة التي بدت شاحبة أيضاً وأقرب إلى لون الماء، قلت: شكراً يا رفيق أنا لا أشرب القهوة، بل لا أشرب أي نوع من المنبهات واتجهت نحو الباب، وهنا تقدم خطوة أو اثنتين وهمس في أذني وهو ورائي، أريد أن أساعدك بشكل خاص، أقصد أساعد ابنك، التفت إليه فاقترب مني أكثر وقال بصوت أخفض أكثر، لدينا طبيب عصبية ممتاز، طبيب عالمي، لقد أجرى عدة عمليات جراحية عصبية لرؤساء جمهوريات ولملوك، سألته مستفسراً لأتأكد، فلعل الطبيب الذي يتحدث عنه شيوعي على شاكلته: رؤساء جمهوريات قلت لي؟ مثل من؟ أجاب بسرعة: كاسترو، فيديل كاسترو. هنا نفد صبري تماماً أردت أن أضرب هذا المهووس، لكن لم أفعلها ففادي ينتظرني خارجاً مع الممرضة ذات الثديين الكبيرين، لحق بي المدير الإداري وقال بهمس: اصعد إلى الطابق الثاني الطبيب هناك في مكتبه، وهذا وقت استراحته… أنا لا أمزح.. نحن رفاق وعلينا أن نكون أوفياء لبعضنا بعضاً.
حين وصلت حيث كان فادي مع الممرضة الشقراء جداً، وكان المدير الإداري قد أخبر الممرضة بحركات من يديه بشيء ما وقد فهمت الممرضة معناها، ولوح لي بيده مودعاً، سألتُ الممرضة: والآن إلى أين سنذهب، قالت مبتسمة: إلى الطابق الثاني تفضل…
يتبع…