الإرادة

حكاية فادي 20: وبعض الطرقات مسكونة بالجنون

عبد الكريم عمرين

كنت أنتظر أن تمر سيارة تاكسي لأصل وفادي  إلى المشفى، مرَّ وقت طويل نسبياً، ولم تحضر أية سيارة، قالت لي جارتي محرجة: اعذرني لا أستطيع الوقوف معك أكثر، لدي دوام ومديري لا يرحم، إنه شيوعي عبوس الوجه.. يشبه ستالين  بكل شيء بشاربيه ونظرته ووقفته البلهاء، يدقق في كل شيء ويعتمد في تقييمه العمل والأشخاص على مجموعة من الإمعات المخبرين خاصته عدا التقارير الحزبية، وملاحظات وتوجيهات جهاز الاستخبارات البلغاري، وتفتيقات مجلس النقابات العمالية البلغاري، ابتسمت لها مواسياً متفهماً حالها الذي يشبه حال مؤسسات العمل في الدول الاشتراكية، صافحتها وقلت لها: بسرعة إلى العمل، لكن لا تنسي أن تبلغي السيد ستالين تحياتي، ضحكت طويلاً وشدت على يدي قائلة: أتمنى لك ولفادي كل الخير.. سنلتقي بعد عودتكما إلى المنزل، قبّلت فادي كثيراً ثم لوّحت بيدها مودعة وغابت عن ناظريّ.

أخيراً حضرت سيارة تاكسي، أشرت لها، فوقفت على بعد أمتار مني، هرعت إلى السائق أقول له: أرجوك هل بإمكانك أن توصلني إلى مشفى الأجانب، كان السائق عجوزاً قصيراً ونحيفاً جداً يضع نظارتين سميكتين، ثقيل السمع، فلم يرد بل صار ينظر أمامه ويفكر بصمت بماذا يجيب، أعدت الطلب بكل رجاء ولاحظت أنه يفهم بعض ما أقوله بالروسية وبعضه الآخر لا يفهمه، من بين أسنانه الصفراء خرجت جملة تسألني: هل أنت روسي؟ قلت له: بالطبع لا، انفرجت أساريره قليلاً حين عرف أنني لست من بلاد السوفييت، سألني وهو يحدق: إذن من أين أنت؟ قلت له: من سورية، عاد يتأمل الطريق أمامه ويكرر ويتذكر: سورية.. سورية، وعندما عجز عن معرفة سورية، سألني: لا أعرف سوريتك، لكن.. جاوبني بلدك اشتراكي أم رأسمالي؟ أردت أن أضحك طويلاً، تفرَّس السائق العجوز في وجهي يتحرى صدق الجواب، خمنت بسرعة أنه يكرة الشيوعية والاشتراكية، فأجبته جواباً ليس صادقاً ولا كاذباً، قلت له: لا يا صاحبي هي ليست اشتراكية، ابتسم السائق وتوقع أن أقول له إن سورية رأسمالية، لكني أجبته وليست رأسمالية، هي حديثة العهد بعد خروج الفرنسيين وتتلمس طريقها لاختيار نظام يخصها، ضحك وبانت أسنانه الصفراء وقال: اصعد.
وضعت عربة فادي في (الباكاج)، وحضنته وجلست إلى جانب السائق، أخرج العجوز لفافة تبغ وصار يدخن، لم أعترض رغم أني مدخن، ولم أشاركه التدخين، سألني فجأة: لماذا خرجت فرنسا من عندكم؟ أخذ حديثنا يزداد صعوبة ويأخذ وقتاً طويلاً ليفهم كل منا ما يقوله الآخر، وبدا الرجل العجوز من خلال كلامه أن به بعضاً من اختلال العقل، قلت أسايره ريثما أصل إلى المشفى وأمري إلى الله، ثم عاد فسألني بعد أن دندن بأغنية بلغارية: لماذا خرجتم أنتم.. أنتم، عفواً ما اسم بلدك؟ قلت: سورية: قال: برافو عليك لماذا خرجتم أنتم السوريين من فرنسا؟ ألم تعجبكم؟ فرنسا بلد عظيم، هل تعرف نابليون بونابرت؟ وديغول كيف حال ديغول؟ هنا أسقط في يدي وتيقنت أني سأكون ضحية رجل مجنون. واخترت الصمت. وعاد العجوز يغني ويدخن ويسير بالسيارة ببطء، مشى بطرق خالية من المارة، والسيارات العابرة فيها نادرة المرور، لكن هذه الطرق آية في الجمال، أشجار باسقة وهدوء رائع وطيور تحلق على مقربة من السيارة.
بعد مسير 3 أو 4 كيلومترات شاهدنا شاباً وصبية على يمين الطريق يتبادلان القبلات ويبدو أنهما يتنزهان ويعيشان غير بعيد، هنا انفجر العجوز ومدَّ رأسه من نافذة السيارة وشتم الشابين، وصار يرغي ويزبد، ويؤشر بيده إشارة المضاجعة، ويطوح بيديه في الهواء مستنكراً فعلة الشاب والصبية، تاركا دركسيون القيادة، ثم يعود فيضرب الدركسيون بكلتا قبضتيه، والسيارة تميل حيناً يسرة وحيناً يمنة، ولم أعد أعرف ما يقول: فقدرت أنه يستخدم تعابير شعبية وشتائم مقذعة، هذا عدا عن أنه كان يلتفت إلى شاكياً غاضباً مستنكراً فيمتلئ وجهي ووجه فادي برذاذ لعابه المتناثر، هنا حاولت أن أهدأه، وأن المسألة مسألة أجيال حديثة، ومسألة حرية أشخاص، ومسألة حب وربما يكونان خطيبين يعيشان حياة الخطبة الجميلة، ولا أعرف كيف انقلب هذا النمس العجوز إلى شيطان، على الأغلب فهم كلامي على نحو خاطيء، أو ربما فهم أني أوبخه بسبب تفكيره وحشريته، فأبطأ مسيره وهو يرغي ويزبد، ثم توقف، وفتح باب السيارة وأمرني بالنزول، طار صوابي تماماً، رفضت النزول فصار يدفعني دفعاً لأنزل، وأنا أمانع وأحمي فادي من يديه النحيفتين القويتين.
هنا صرت أشتمه بما أعرفه من كلمات بذيئة باللغة الروسية، وحقدي جعلني أشتمه باللغة العربية، وبكل ما أنتجته لغة الشوارع العربية من كلام بذيء، جن جنونه، وصار يصرخ: ماذا تقول؟ تكلم بالبلغارية، أو الروسية، وعاد يقول لي: أنتم مجانين أيها السوريون، هل ثمة عاقل يخرج من فرنسا؟ كيف فعلتم؟ هنا جاءت قبضته وهو يدفعني خارج السيارة بالخطاً على وجه فادي، فبدأ فادي بالبكاء، جن جنوني.. لكمته بكل قوتي على فمه، فانخلع أحد أسنانه الأمامية في مقدمة فمه، وصرت أشتمه وأصرخ متوعداً أني سأشكوه للبوليس، وسآخذ رقم سيارته، وسأذهب إلى البوليس والمخابرات والحزب الشيوعي… هنا جمد الرجل في مكانه وقال وهو يمسح الدم الذي خرج من فمه بمحرمة قماشية وسخة: آسف.. أرجوك سامحني.. آسف، سأوصلك إلى المكان الذي تريد ولا أريد منك أجراً بل أنا من سيدفع لك المبلغ الذي تشاء، لكن لا تشكوني.. لا تشكوني.. البوليس صنفني من المعادين للاشتراكية، هذه المرة سيأخذوني إلى السجن.. أرجوك. وأخذ يقبلني ويقبل فادي ويبكي..
صرت أمسح الدم عن وجه فادي وخدي، وابتسمت له بصعوبة، قلت له: أسامحك.. أسامحك وسأعطيك أجرك كاملاً وزيادة بشرط أن لا تتحدث طوال الطريق بحرف واحد.
يتبع…..