مياس سلمان
يمر أمامي شريط الذكريات المكون من عدد كبير من القشات التي تعلقت بها عائلتي عندما أسمع هذا المثل يتكرر أمامي فأستعيد لحظات ليست سهلة سواء للتذكر أو إعادة الخوض في تفاصيلها. سمعته مجدداً مع انتشار كنت أستمع إلى قصة حماسية عن نبتة تستطيع شفاء مرض السرطان لينتهي الحديث بالغريق يتعلق بقشة، فيبدو لي المثل تبرير واضح لاتخاذ قرار ينافي العقل والمنطق وغالباً ما يتعلق بالصحة والأمراض.
لا يمكن لأي أسرة أن تتقبل وضع مرض ولدها، فالأم بالأحوال العادية تسهر لمجرد أن طفلها يعاني من ارتفاع حرارة، أو مغص بسيط، أو لأن طفلها يبكي؟ فما بالك بأم يقال لها لابنها الأول الذي لم يتجارز عمره خمسة أشهر “طفلك غير قابل للشفاء! يجب أن تتقبلوا الواقع؟”.

كيف يمكن أن يستوعب الأهل هول الصدمة عندما يتم إخبارهم من قبل الأطباء بأن ولدهم مصاب بأذية دماغية سببت له نوع من أنواع الشلل، وأنه لا يمكن التنبؤ بما سببه نقص الأكسجة من ضرر في الوقت الحالي، وأن عليهم الانتظار والدعاء حتى يتضح حجم الضرر في المستقبل.
لن أتحدث عن عدد الأطباء والفحوصات التي تعرضت لها، وأني كنت فأر تجارب لعدد غير قليل من الأطباء الذي يحاول كل منهم تجربة ما تعلمه على جسدي الغض، بل سأتحدث عن الأشياء والطقوس الغريبة وغير المنطقية التي حاولت عائلتي تجريبها خارج حدود المنطق في محاولات متكررة لإنكار الواقع أو الهروب منه. معظم هذه المحاولات لم تكن مجرد أمل زائف ينطفئ لتعود الحياة على ما هي عليه، بل كانت مطاردة محمومة لسراب يحسبه العطشان ماءً، فإذا به “علقم” يبقى مراره في الحلق طويلاً.
كنت في الصف الثالث عندما أتى جارنا لزيارتنا وحدثَّ أبي عن طفل عمره خمس سنوات في قرية تبعد عن قريتنا حوالي الثلاثون كيلو متراً، يملك قدرات خارقة، ويساعد بشفاء كل من يقوم بزيارته. رغم أن أبي مدرس ومربي أجيال “كما يقال”، اقتنع بالفكرة، وربما لم يقتنع لكنه “تعلق بالقشة”، وقال سنجرب الأمر علها إشارة من القدر، ويُشفى ولدي على يديّ ذلك الطفل.
كل ما أذكره أنه كان يوماً خريفياً من أيام تشرين الثاني، كنتُ حينها طفلاً قادراً على المشي بصعوبة وأنا أمسك بيد والدي كأنه طوق نجاتي من خطواتي المتأرجحة.
وصلنا إلى بيتٍ ريفي بسيط محاط ببستان ليمون، فالقرية التي يسكن بها الطفل قريبة من ساحل البحر. لفتني حينها منظر الليمون الحامض الأصفر على الأشجار في ذلك المكان. فأنا أعيش في ريفٍ جبلي بارد لا تنمو فيه أشجار الليمون، لم نذهب وحدنا، بل برفقة جارنا صاحب الفكرة والذي يعرف أهل الطفل. كانت الساعة حوالي التاسعة صباحاً، استقبلنا أحد أفراد العائلة خارج المنزل وجلسنا على “البرندة” الخارجية للمنزل. انتظرنا ما يقارب الساعة والنصف فالطفل “المعجزة” لم يرغب حينها بمقابلة أحد، وعلى ما أعتقد فقد أضاف هذا الانتظار الطويل جواً من الترقب والتفخيم للحظة المنتظرة.
وأخيراً سمحوا لنا بالدخول. كان الطفلُ أشقراً، نحيفاً نوعاً ما، وعيناه عسلية. جلستُ بجانبه كالأبله لا أعرف كيف أتصرف؟ فكلانا طفلان كان من المفروض في الحالات العادية، أن نجد طريقة للتقرب من بعضنا البعض كي نلعب سوياً. أذكر أنَّ كل ما فعله بأن وضع إصبعه السبابة بكأس ماء ثم لمس باصبعه جبيني وقال كلمة واحدة (سيُشفى).
انتهى اللقاء سريعاً فلم يتجاوز الثلاث دقائق، خرجنا من المنزل وأنا مُمسك، من جديد، بيد والدي، كانت السعادة والثقة تملأ وجه والدي وقلبه وهو ينظر لي ويقول: (ما قلتلك بدك تصح). لا أدري كم كان يبحث عن وهم أو أمل كاذب كي ينكر فكرة أني سأبقى مريضاً إلى أخر العمر. المضحك بالأمر أنه بعد أشهر علمنا أن الطفل قال نفس الكلمة (سيشفى) لكل من قابله.
لم تكن زيارة الطفل (المعجزة) الموقف الوحيد الذي حصل بطفولتي، فبسبب وضعي “شلل الأطفال”، وما يرافقه من ضعف في العضلات كان اللُعاب يسيل من فمي بشكل كبير.
أذكر أمي وهي تقول لي أني أصبحت كبيراً في الصف الأول ويجب أن أتوقف عن عادة سيلان اللعاب فهذا أمر معيب. لم أكن قادراً على التحكم بالأمر ما كان يسبب لي احراجاً كبيراً. في أحد الأيام، زارتنا جارتنا العجوز، واقترحت على أمي أن أعلق برقبتي بحصة خاصة اسمها (بزقة القمر) مربوطة بخيط أسود، وكانت تملك واحدة منذ زمن طويل فأحضرتها لي مع وعود أن هذه التعويذة ستوقف سيلان اللعاب خلال ثلاثة أيام.
علقتُ البحصة (التعويذة) دون مناقشة لمدة شهر، وتعلقت أمي بقشة جديدة لمدة شهر. لم أستفد شيئاً، وبقي سيلان اللعاب حتى الصف السابع عندما توقف فجأة دون أي تعاويذ. عرفت بعد عشرين عاماً أن ذلك كان أمراً طبيعياً بسبب شلل الأطفال وهو نتيجة حتمية لضعف عضلات الفك وكل ما كان قد ينفعني هو ممارسة بعض التمارين الرياضية المتخصصة لتقوية عضلات الفك كي تصبح قادرة على التحكم بسيلان اللعاب لا أكثر.
نحن في النهاية ثمرة تجارب كثيرة مررنا بها بحلوها ومرها، في مرحلة لم نكن قادرين على التمييز بين الوهم والحقيقة، تجارب أعطتنا خبرات كثيرة ساهمت بتكوين شخصيتنا يجب ألا نخجل منها أو نحاول انكارها، عندما نصبح بمرحلة من النضج قادرين فيها على التمييز بين الوهم والحقيقة، فنملك من القوة النفسية ما يُمكننا من الاعتراف بهذه الأشياء الني ستبقى رصيداً من ذاكرتنا ساهمت بتكوين شخصيتنا.ت