عبد الكريم عمرين
لشهور طويلة عشنا كوابيس مرعبة، كوابيس طاحنة من تخلف اجتماعي يحيق بنا. صرنا حديث الناس، وكلٌّ يعلّق ويدلي برأيه، بل يجزم بثقة، أقرباء، أطباء ومدراء وبائع الخضرة واللحام، زملاء العمل والجيران، الأصدقاء والأعداء، وينتهي الكلام بـ: يا لطيف الله يعينهم ويشفي ولدهم، أو(شوفوا شو عاملين حتى الله بلاهم هذه البلوى) أو هذا الولد مسحور ويجب فك السحر عنه. في المجتمعات المتخلفة تصطدم يومياً بالجهل، الجهل الذي يريد أن يفرض آراءه وعقائده عليك، بل سلوكه، فتحارب هذا الجهل كدون كيشوت، تحارب لتصحح لهم معلوماتهم وعقائدهم، لكنك كمن يلقي البارود على النار فتخسر معركتك مع الجهل المحيق بك من كل صوب، بسبب كثرتهم وسفاهة وتشدد بعضهم.
لأول مرة أذوق طعم الشفقة، ويا له من طعم مرّ، بل هو طعم العلقم، البعض كان ينظر إلى فادي وحالته المرضية نظرة إشفاق، ويختار كلاماً لمواساتك ليس لها دلالة غير أنك عاجز، وهذا نصيبك من الحياة، وهي إرادة الله، وعليك أن تستسلم، بل يذهب إلى كلام أقسى، فيسأل عن نهاية صاحب المرض… وهنا كنت أُستفَزّ تماماً وأجيب بلؤم: “بعد نهايتك وسكنك في قبرك حتماً”. لا أدري حقاً من أين جاءني هذا الشعور، بأن البعض ينظر إليّ وإلى فادي نظرة إشفاق، وهذه نظرة كانت بالنسبة لي مؤلمة أكثر من نصال السيوف، وربما بسبب هذا الجحيم وافقنا زوجتي وأنا على اقتراحات الكثيرين من أصدقائنا من الأطباء والمهندسين، أولئك الذين درسوا ونالوا شهاداتهم العليا في دول ما كان يسمى المنظومة الاشتراكية، خصوصاً بلغاريا والاتحاد السوفييتي.
قررنا أن أسافر أنا وفادي إلى بلغاريا، فهناك يوجد مراكز متقدمة لعلاج هكذا حالات من الشلل أو الإعاقة، أجرينا بعض الاتصالات مع الأصدقاء، وثمة طالب طب سوري من حمص أبدى استعداداً لاستقبالي، ومساعدتي في التعرف على هذه المراكز وتأمين سكن لي ولفادي في صوفيا، بالإضافة إلى كوني أجيد اللغة الروسية، وهي قريبة جداً من اللغة البلغارية، إضافة إلى أن كل البلغار يدرسون في المدارس والمعاهد والجامعات اللغة الروسية منذ طفولتهم وحتى انتهاء دراستهم.
كنت في زيارة إلى دمشق حين أخبرني صديقي مانويل جيجي بسفره إلى بلغاريا ضمن وفد من نقابة الفنانين، واتفقنا مانويل وأنا أن يصحبَ هو فادي معه، وأنا سأسبقهما وأستقبلهما في المطار.
حجزت تذكرة سفر إلى صوفيا قبل أسبوع تماماً من سفر مانويل وفادي، ويوم السفر وفي مطار دمشق قيل لي إن سفري غير مؤكد، فانا على لائحة الانتظار، كان الازدحام شديداً في أواخر آب، وبعض الطلاب السوريين يريدون العودة إلى بلغاريا لمتابعة دراستهم، وبعض متوسطي الدخل يريد أن يودع الصيف في ربوع بلغاريا كسائح، سيصعد جبل فيتوشي، ويسبح على شواطيء فارنا. وصار صعودي للطائرة مستحيلاً بسبب الازدحام والعدد الكبير من الأسماء على لائحة الانتظار، غضب تملكني وحزن عميق كنت أريد أن أسبق فادي لكي أستأجر شقة لي وله وأن أشتري له عربة يجلس فيها، وأجهز له طعامه وكل ما يحتاجه، والآن صار الأمر عسيراً.
بحثت عن أقرب هاتف، تحدثت إلى صديق حمصي، زوجته قريبة لضابط أمن المطار، شرحت له ما أنا فيه، فقال لي انتظر عشر دقائق فقط وسيكون لك ما تريد، وفعلاً بعد عشر دقائق وكنت أقف في طابور أنتظر مع من هم على لائحة الانتظار جاء مساعد في الأمن وسأل بصوت مرتفع: من عبد الكريم….؟، قلت: أنا، خير؟ ماذا تريد؟ قال تفضل معي سيادة الرائد ضابط أمن المطار يريدك.
في مكتب ضابط الأمن الذي استقبلني بفنجان من القهوة، شرحت له أن سفري هو لعلاج ولدي وليس للسياحة والفنطزية، وأنا مضطر لأسبقه لاعتبارات شرحتها له. ابتسم الضابط بود وقال: لا عليك، ستسافر وعلى ذات الطائرة التي ستقلع. ورفع الهاتف وتحدث مع مساعد أو ضابط في الحركة الأرضية قال له: الطائرة المتجهة إلى بلغاريا ممنوع أن تقلع إذا لم يكن عبد الكريم من ركابها، مفهوم؟ وأغلق سماعة الهاتف، وابتسم مجدداً قائلاً: ما بصير إلا اللي بدك إياه، وشكرته وتوجهت إلى الطائرة التي كانت تنتظرني، ولم تقلع إلا حين صعدت إليها كآخر ركابها. واختاروا لي مكاناً مرموقاً، وكانت ضيافتهم لي معززة ومزدوجة، أما أنا فقد استسلمت لنوم عميق، خصوصاً أني خرجت من حمص في السادسة صباحاً، والطائرة أقلعت في الرابعة عصراً.
وأيقظتني مضيفة جميلة بابتسامة ساحرة، قالت: وصلنا أستاذ، اقتربنا من مطار بلوفديف. ومن شباك الطائرة كانت بلوفديف تتلألأ أضواؤها في عتمة غبش أول المساء…
يتبع…
One Response
بانتظار المزيد ..