بسبب وضعي الصحي، لم أستطع المشي حتى سن الثلاث سنوات ونصف وكانت مِشيتي ثقيلة الخطوات في بدايتها… عدد المرات التي أسقط بها قد تفوق عدد الخطوات التي أخطوها، مرحلة مرتْ بقي منها بضعةُ جروح ما تزال آثارها في رأسي شاهداً على ما حصل.
جميع الأطفال يتزامن كلامهم مع مشيهم إلا أنا فقد تكلمت في عمر السنة ونصف، وتكلمتُ بطلاقة قبل أكثر من سنة من قدرتي على المشي، تكاد مخيلتي لا تخلو من بعض الصور لهذه المرحلة، ولكن حديث أمي المتكرر عنها جعل الصورة تتضح في ذهني أكثر، كانت لعبتي المفضلة لعبة المكعبات الملونة التي أجمعها وأعيد فكها بصعوبة وأنا جالس في مكاني، وكانت رفاهيتي أن يجلسني أبي في الطبيعة وحولي عدد من الحجارة الصغيرة جمعها لي وأنا أقوم برميها لمسافة لا تتعدى المتر، هذه الألعاب في الحقيقة ليست سوى وصفة طبية وصفها لي طبيب لتقوية حركة يديّ أكثر.
في ذلك الوضع الصحي الصعب الذي رافقني في مرحلة الطفولة المبكرة جعل خوف أهلي وحرصهم زائداً فكانوا يتحاشون كثيراً أن ألعب وأحتك مع الأطفال كي لا أسقط وأتعرض للأذى، فقد عشتُ طفولة مقيدة تماماً شبه سجين قبل سن المدرسة، وكنت أنام على فرشة ووسادة على الأرض لأنهم يخشون أن أتعرض للسقوط من السرير أثناء نزولي منه.
عندما دخلت المدرسة في سن السادسة كانت المدرسة تبعد عن منزلي خمسمائة متر، وهي مسافة طويلة لطفل يكاد يخطو بضع خطوات دون أن يسقط، كانت أمي تحملني للمدرسة في الذهاب والعودة.. مدرسة قريتي صغيرة لا يتجاوز عدد طلابها الثلاثين في كل الصفوف، وفي صفي الأول كان عدد الطلاب ستة فقط، وكانت أمي توصي الأساتذة بالانتباه عليَّ أكثر، وكان خوفهم عليَّ من السقوط كبيراً، فكانوا ينبهون الأطفال للعب معي بحذر وتهديدهم مما جعلهم يبعدون عني ويتحاشون اللعب معي ما أمكن مما زاد معاناتي ووحدتي.
كنت أجلس في الباحة في الفرصة أشاهد الأطفال كيف يركضون ويلعبون وأنا في عمر أكبر إنجازاتي فيه أني أستطيع دخول الحمام بمفردي.. لم ألبَس بنطالاً قط لأنه يصعب عليّ فكه، فكنت دائماً أذهب للمدرسة بالبيجامة لسهولة التعامل معها، وفي حصص الرياضة أجلس أتفرج كيف يلعبون بالكرة أستمتع بمشاهدتهم وأتمنى لو أستطيع مشاركتهم لا أنكر أنني كنت ذكياً في المدرسة، ولكنني كنت أيضاً طفلاً مشاغباً يفرغ طاقته بكثرة الكلام والثرثرة.
في الصف الثالث أصبحتُ أقوى جسدياً أستطيع الذهاب للمدرسة وحدي وأستطيع اللعب أكثر ولو أن مشيتي كانت وغير متزنة كنت دائماً أتواجد مع الأولاد في زواريب القرية، أحاول مشاركتهم اللعب ولو بشكل بسيط، ولم أستطع قط أن أسوق الدراجة الهوائية، ولكن أصبحت أركل الكرة قليلاً وأحياناً عندما يحصل نقص في العدد أقف حارس مرمى، فكنت أتعرض للسقوط والألم عندما أحاول إمساك الكرة فقط لأثبت لهم أني أستحق اللعب .
في الصف الخامس كنت أتمشى تحت شجرة متوسطة الطول عليها دالية عنب بعيدة عن متناول يدي تمنيت لو كنت كالبقية أستطيع تسلق الشجرة وقطف العنب. أخبرت أمي بذلك، ولكن عندما سمعتها في المساء تقص لوالدي ما حصل وهي تبكي قررت عدم مصارحتها بهذه الأمور.. أصبحت ناضجاً قبل الأوان أكتم ما يزعجني في داخلي، أحياناً أبكي بمفردي وأتألم وحيداً واستجمع قوتي بإصرار أكبر على الحياة والنجاح وتحمل المعاناة. كثيرة هي المواقف مرت بي في طفولتي لا سبيل لنسيانها، تركتْ أثاراً في نفسي لا يمحوها الزمن.
أنا اليوم في سن الخامسة والثلاثين ماتزال أثار الطفولة التي عشتها تظهر على ملامح شخصيتي، فأنا أصبحت مدمناً على مشاهدة مباريات كرة القدم بسبب عدم قدرتي على اللعب في الصغر، وأميل كثيراً لمجالسة الأطفال الصغار للعب معهم… أجلب لهم الحلوى أتحدث معهم كأصدقاء، ففي داخلي طفل صغير يستمتع كثيراً باللعب مع الأطفال ولا يريد أن يكبر، كما أنني أميل للجلوس وحيداً أجد فيه سلاماً نفسياً لأني في مرحلة الطفولة تعودت أو أرغمت أن أكون وحيداً.
أحياناً أبكي بمفردي وأتألم وحيداً واستجمع قوتي بإصرار أكبر على الحياة والنجاح وتحمل المعاناة. كثيرة هي المواقف مرت بي في طفولتي لا سبيل لنسيانها، تركتْ أثاراً في نفسي لا يمحوها الزمن.