خليل سرحيل
لم يأخذ بحثي عن منزل أعيش فيه سوى ثلاثة أشهر وأسبوع كامل. وهو زمن طويل قد لا يشعر من هم دون إعاقة به عند بحثهم عن منزل، لكنه زمن طبيعي بالنسبة لنا، نحن من تمتد أزمانُهم لتصبحَ أشبهَ بالوهم.
ومن بين عشرات المنازل التي عاينتها مع والدتي، استطعت أخيراً أن أجدَ البيتَ الأنسب من بين عشرات البيوت. يطلبون مني أن أبقى مقيماً مع والدتي الوحيدة، ولكني كنت أرفض ذلك، وما أزال، فليس لدي سبب مقنع بأن أعيش مع والدتي فقط لأنني من ذوي الإعاقة! وكل ما تساعدني به والدتي أستطيع فعله لوحدي، لكن بزمنٍ خاص بذوي الإعاقة، قد يتعجب من هو طبيعي منه، مثل أن يأخذ معي ترتيب المنزل ثلاث ساعات بينما تقوم والدتي بذلك خلال نصف ساعة. وقد قضيت أكثر من سبع سنين أحاول الاستقلال والعيش وحيداً، لأسباب كثيرة، أهمّها الدفاع عن طبيعتي، وعن حقي في أن أعيش حياة طبيعية، قد تصدم من يعرف أنني أعيش لوحدي.
ومهما كنت قد حاولت أن يكون البيت داخل مركز المدينة كنت أصدم إما بوجود درج عالٍ أو إيجار مرتفع للغاية لا أستطيع تحمله، أو من لا يريد للكرسي المدولب أن يخدش الجدران. ومجدداً رفضتني المدينة بطريقتها الخاصة. لكنني أزددت عنداً وإصرار في دفاعي عن طبيعتي، وهكذا كان منزلي على طرف المدينة، لكنه قريب من كل شيء أحتاجه، وهذا كاف بالنسبة لي حالياً.
عندما وقعت عقد الإيجار لم أنتظر أحداً كي يساعدني بالنزول من الطابق الثالث، حيث أقيم مع أمي، وزحفت على الدرج بسرعة استغربت أنا نفسي منها، ليس هرباً من منزل أمي الذي أحب، بل شوقاً لحياتي الخاصة التي أريد أن أعيشها وفقاً لمزاجي الخاص. وراقبت الشاحنة وهي تمتلئ بحاجياتي الكثيرة… الكراسي المدولبة وجهاز المشي المساعد وجهاز لتثبيت الأقدام، وكيس صغير للملابس…
وأمام المنزل الجديد جلبت ضوضاء ذوي الإعاقة، التي تعتبر صفة خاصة بنا، الجيرانَ الفضوليين، فقد نادت إحداهن على سكان البناء بصوت عالٍ جعلني، أنا من كنت محط الاهتمام، أهتم أكثر بما يتنبئون بحدوثه؟ وما الذي ينتظرون رؤيته؟ هل سأدخل إلى منزل أم إلى قبر؟.
تعالوا انظروا عائلة كاملة من المعوقين، هيا هيا بسرعة…. وخلال لحظات رفعت رأسي الى الأعلى لأشاهد الرقاب وهي ممدودة من الشرفات تنظر إليّ وإلى كراسيّ المدولبة في مشهد أحسست بأني بالفعل عائلةٌ كاملة من المعوقين، حتى أني دافعت عن هذه الفكرة المغلوطة بخجل واضح، وأخبرتها بأني وحيد، وهذه الأجهزة لي وحدي .
وبدأت موجة من أقوال مثل: “لاحول ولا قوة إلا بالله.. والله يشفيك …” تسقط على رأسي مثل حبات البرد الثقيلة.
صفة أخرى ترتبط بنا نحن ذوي الإعاقة هي افتراض أننا كائنات ضعيفة بحاجة للحسنة والمساعدة والدعاء. بل تصل في أحايين كثيرة إلى اعتبارنا بركة من الله ولا شيء أكثر.
في الحقيقة لم تعد هذه السلوكيات المغلوطة تؤثر بي كما في السابق، لقد طور عقلي الباطن فلتراً يمرر عبره كل ما هو مشابه للسريالية التي يتعامل المجتمع بها معي. وقد لا ينجح الأمر في كل مرة لكنه فلتر نافع أشكر إعاقتي على تطويره.
أمضيت الأسبوع الأول لأتعلم كيف يريد المنزل مني أن أكون به كشخص لديه إعاقة، ولم أختلط حتى الآن بالجيران الجدد لدرجة أنني قررت عدم الاختلاط بهم بعدما أمطروني بالدعاء عدا جارتي التي نبهت الجميع بقدومي. سأحاول يوماً ما أن أدعوها لنحتسي القهوة معاً ونستمع للموسيقى ونخلع ملابسنا ليس لشيء سوى دفاعاً عن طبيعيتي التي يمكن أن يكونها أي أحد وفي أي منزل، ولربما هكذا أتحول في نظر الجيران إلى شخص طبيعي يعيش على كرسي متحرك ولا شيء غير ذلك .
وهذا هو حلمي الذي أريد تحقيقه مهما طال الزمن، حقي في أن يُنظرَ إليّ بشكل طبيعي لا يُحكَم عليّ بسبب إعاقتي. شخص طبيعي في منزله يعيش ويعمل ويخرج ويتفاعل مع المحيط، يدفع الفواتير ومنزله مليء بالضيوف والأصدقاء. منزل لا تدخله الشفقة ولا تطرق المقاربة الخيرية على أبوابه وفي داخله شخص يطبخ ويجلي ويشطف ويرتب، لكن على كرسي متحرك.
أين الغريب في هذا الحلم؟
وأين المستحيل في تحقيقه؟
صفة أخرى ترتبط بنا نحن ذوي الإعاقة هي افتراض أننا كائنات ضعيفة بحاجة للحسنة والمساعدة والدعاء. بل تصل في أحيان كثيرة إلى اعتبارنا بركة من الله ولا شيء أكثر.