الإرادة

عبد الكريم عمرين

ولدي حبيبي فادي الجميل:

وأنت تتجاوز اليوم الخامسة الثلاثين من العمر, في أتون جرب مجنونة, دعني قبل أن أضمّك وأقبلك, وأقول لك: كل عام وأنت بخير, دعني أقول لك أني تعبت, فأنا رجلٌ غادر التاسعة والستين وصرت كحصان عجوز لا تليق به سوى السكين, رجل منخور بالبارود وحصارك, وأسعى ما استطعت إلى إطعامك وتأمين دواءك وإسعادك. لا يا فادي, ليس منَّة ما أقوله لك, ولا لأذكِّرُكَ أني خادمك, أو.. أو أن قيدَك أدماني, لكن.. أرجوك افهمني يا ولدي, فالسنين التي عشتُها والحرب المجنونة وإعاقتك, جعلت منّي رجلاً هشاً بقلب امرأة, وما أصعب أن يعيش الرجل بقلب امرأة في زمن القتل والقسوة وأعراس الدم, وفي زمن يأكل فيه الإنسان أخاه الإنسان تحت يافطات وشرائع تُمجِّدُ الأمم والقوميات والأوطان والطوائف والأديان.

ولدي حبيبي.. من ضعف أكتبُ لك, ومن سأم وملل وضجر أسأل الربَّ عن حكمته فيما فعل بي وبالبلاد والعباد, وأجأر بسؤاله: ما فائدة أن يصبحَ المطرُ دماً والريح نشيجاً؟!. أعلمُ أني أكتب لكَ على ورق, ليس أكثر من ورق, أكتبُ ألمي الحقيقي غلى الملأ. سيقرأ ما أكتبه البعض ويسخر أو يأسف البعض , ويدمدم بعض آخرآخر: كان الله في عونك, وأنا موقن أن العون هو عون الإنسان للإنسان, في زمن ما عاد فيه الإنسان إنساناً.

كأني أهذي هذيانَ أهل الجحيم, هذيان العيش السقيم والقتل اللئيم, هذيان لُقمة الزقوم, هذيان الموت بالبراميل والقنص الحاقد والأحزمة الناسفة, هذيان بسبب بيوتنا التي أصبحت رماداً والتهجير دون مجير, وبفعل تجارُ الحروب والمصالحات الوطنية وأهل التربيع والتدوير وأمريكا وروسيا وإيران وتركيا ودول النفط الزفت, هذيان رجل وضعوا في عنقه أنشوطة الإعدام شنقاً فلا هم ركلوا الكرسي تحت قدميه ولاهم تركوه يقعي أو يسعى فوق خشاش الأرض.

فادي حبيبي.. أكتب لك من عجز, فقد أصبحتُ عاجزاً أمام عجزكَ واحتياجاتك.. اعذرني يا فادي. لكن اسمع تذكرت, ألم تقل لي منذ أيام: ” أنت أحلى أب بحياتي “؟ ضحكت حينها لطريقة تعبيرك, سألتك في سري: ليش كم أب في بحياتك يا ولد؟ ثم بكيت امتناناً, وفرحت أن لكَ حياة أصنعُها لك.. أنا الذي صرتُ دون حياة.

فادي حبيبي

لم ألعن الساعة التي ولدتَ فيها, ولم أكره عيشي بسببك, بل العكس يا ولدي.. أنت نعمة أنعم الله بها علي. وأنت تعرفُ ذلك جيداً, ألا أغنّي لك في الحمام أحلى الأغنيات وأرشك بالماء مداعباً, وأفركُ جسَدَكَ بكيس الحمام, تماماً كما كانت أمي تفعل بي رحمها الله؟ وأقبُّلُ أصابعكَ حين أقصُّ أظافرك؟ ألا أقوم برعايتك حين يداهمك الكَتَمان الملعون, وأفعل بحب مايراه الآخرون مقرفاً؟, ألا أضمك بشغف حين تأتيك نوبات الاختلاج وأستل إبرة الفاليوم كالمجنون لأدفعها داخلك؟ ألا تحسّ بقطرات دمعي حاراً ومالحاً على وجهك حتى تهدأ؟ وألعبُ معك لعبة المصارعة الخاصة بنا, فأغلبك تارة وتغلبني تارات وأرفع يدك كبطل يهزم خصمه؟. فتضحك ويهطل رضابك مدراراً؟

اعذرني يافادي..

في عيد ميلادك اليوم, لا أستطيع أن أشتري لك الجاتو الذي تحب, للسنة العاشرة لا يحضر الجاتو بالشوكولا ولا الجيليه والفواكه. لا أستطيع أن أفعل لك شيئاً يا فادي, أنا المعاق لا أنت.. أنا المعاق.

لكن اسمع سنحتفلُ ونغني معاً وأعدكَ أن لا أبكي وأنا أغنِّي لك , وعليك أن تعدني بضحكة تهزُّ الأرضَ السافلة وتُنقصها من أطرافها, وتجعل الطير صافّات .. اضحك يا ولدي , لعل ضحكتكَ تكونُ بديلاً عن بوق اسرافيل وتحيي عظامي وهي رميم ..

الآن سأحضرُ لك الشاي, شاي محلّى كما تحبه, وقبل ذلك تعال أريدُ أن أضمَّك إلى صدري وأقبلك وأجهش بعبارة: كل عام وأنت بخير.