الإرادة

صدمة البتر: خسارة طرف لإنقاذ باقي الجسد… ماذا يحدث على المستوى النفسي؟

أذكر أنهم أخذوا قدمي، دفنوها، أو ربما أجروا عيها التجارب. كان عمري حينها 20 عاماً، أعزل من كل شيء، أواجه العالم بمفردي… وعندما فقدت قدمي، فقدت معها الكثير… شغفي بالحياة، نزهتي في غابة الصنوبر، وبقية أحلامي.

ليس من الغريب أبداً أن أبقى في المنزل لشهرين متواصلين من غير أن أغادر سريري وبجانبي طرفي الصناعي ينتظر مثل حصانٍ أعرج. تغير إحساسي بالزمن فلا الماضي يعنيني، ولا المستقبل الذي كلما حاولت أن أطارده تصدمني كل عوائق الدنيا فأعود لسريري لشهرين آخرين.

أعرف حقيقة واحدة أن طرفي الصناعي سيبقى بعد موتي جزءاً يخاله الناس مني، ولكني حتى اليوم لا أستطيع تقبله على أنه جزء مني، ففي لحظات الألم أشعر بقدمي، وهي لا تزال دافئة تتحرك أنظر إليها ولا أراها.

هذا جزء من رسالة وصلت إلى صفحة إرادة… بوح من شاب بترت قدمه خلال الحرب وهو يحاول جاهداً التأقلم مع حالته الصحية… لكنه لا يستطيع… حتى الآن، على الأقل.

أقرأ تتمة الرسالة في نهاية المقال

اعتدنا أن نقرأ قصص النجاح، تخطي الألم وتجاوز صدمة البتر مثل العداءة السورية ديما الأكتع التي استمرت بالركض بطرفها الصناعي وشاركت في مبادرة عالمية للمشي بهدف جمع التبرعات للاجئين. وكانت ديما قد فقدت ساقها اليسرى من أعلى الركبة بعد سقوط قذيفة على بيتها في بلدة سلقين في ريف إدلب.

مثال آخر هو عبد المولى إبراهيم الذي فقد ساقه عندما كان في السادسة عشرة من عمره، لكنه ذلك شجعه كي يصبح أخصائي علاج طبيعي متخصص في الأطراف الصناعية، وتعلم كيفية صناعة الأطراف الصناعية ليساعد غيره ممن خسر أحد أطرافه وهو يعمل مع جمعية خطوات في مدينة الباب في الشمال السوري.

هناك الكثير من قصص السوريين الملهمة، لكن ما لا يجري الحديث عنه كثيراً هو الطريق الشاق الذي يتطلبه الوصول إلى تقبل حالة البتر وتحويل كل هذا الألم إلى طاقة إيجابية للاندماج في المجتمع من جديد.

يعد بتر أحد الأطراف من العمليات التي تسبب صدمة نفسية عنيفة لمعظم من يتعرضون لذلك الإجراء الطبي القاسي، حتى أولئك الذي يعانون من القدم السكري لسنين طويلة ويتوقعون أن يتم البتر، فقد يظل بعضهم لسنوات يحاول تجنب تلك العملية، وبطبيعة الحال فهو أشد قسوة على أولئك الذين يتعرضون له بشكل مفاجئ.

هذه حال 86 ألف سوري فقدوا أحد أطرافهم بشكل مفاجئ خلال سنوات الحرب. حسب منظمة الصحة العالمية فإن الرقم مستمر بالارتفاع بسبب الألغام الأرضية المزروعة على امتداد مئات الكيلومترات والتي تسبب ما يقدر بحالتين إلى ثلاث حالات بتر يومياً، إلى جانب ضحايا الزلزال الذين تعرض الكثير منهم لحالات بتر.

يقول المعالج النفسي إسكندر التلي: “تتغير المشاعر بعد حالة البتر حسب الشخص ذاته وطبيعته وتجربته في الحياة، ولكن أيضاً حسب شدة الصدمة والرعب المرافقة لحدث البتر. تختلف هذه المشاعر بين الخوف، اليأس، الرفض أو الإنكار، الغضب أو الحزن والقلق، فقدان لتقدير الذات والثقة بالنفس… من الطبيعي أن يعاني الشخص الذي فقد أحد أطرافه لما يسمى التشوهات المعرفية أو الأفكار غير العقلانية والتي تسمح للتأثير العاطفي السلبي بالبقاء وتؤثر على عملية قبول ومعرفة الذات”.

في دراسة أجرتها الدكتورة عالية الرفاعي لدى عينة من الأشخاص مبتوري الأطراف العلوية والسفلية في مدينة دمشق توصلت إلى أن الأشخاص الأكبر سناً والأشخاص المتزوجين أظهروا قدراً أكبر من التأقلم مع البتر فيما الأشخاص الذين فقدوا ساقهم فوق الركبة أو الذين فقدوا أحد أطرافهم العلوية واجهوا شدة نفسية أكثر جدة.

تعد العناية النفسية بهؤلاء المرضى حجر أساس في إمكانية عودتهم إلى الحياة الطبيعية، حيث يتعرض ما يزيد عن 30% منهم لاكتئاب حاد جراء عملية البتر كما يواجه بعضهم أفكاراً انتحارية. ومن هنا يأتي دور الدعم النفسي “لبدء عملية معرفة الذات وقبول الذات من جديد والتي ستمكنهم من قبول المواقف الجديدة في حياتهم والوصول للمنطقة الآمنة، التي لا تعني بالضرورة عودة الحياة الطبيعية، وإنما مواجهة التغيير في حياتهم وأجسادهم والقبول به” حسب المعالج إسكندر التلي الذي يضيف “لدينا جميعاً درجة ما من المرونة النفسية، التي تمكننا من مواجهة الحياة بصعوباتها والمواقف من خلال الإبداع والعلاقات العاطفية وشبكات الدعم الاجتماعية كالعائلة والأصدقاء وحتى الفكاهة… كلها وسائل يجب تنميتها لدى مريض البتر كي يستطيع التكيف مع واقعه الجديد”.

أن يفقد أحدنا أو أحد أحبتنا طرفاً من جسده، أمر في غاية الصعوبة، ما يدعونا للتوقف كثيراً أمام هذا الألم الجسدي والنفسي، والتعاطي معه بواقعية وتفهم وتقبل، فقد يتم تجاوز الوظيفة الفيزيائية عن طريق تركيب طرف صناعي، لكن الألم النفسي لا يمكن أن يعوض بدون أن ننظر إلى بعض بالعيون ذاتها فالتعاضد والدعم والاحتواء هي أمور يجب أن يتم زراعتها في محيط المريض وعائلته وشبكته الاجتماعية التي تستطيع إنقاذه وسحبه إلى بر السلام الداخلي بعد رحلة شاقة، قليلون يختارون أن يشاركوا المرضى أهوالها.

رسالة إلى الموقع

من حكاياتكم ترددنا قبل أن ننشر الرسالة لما تحمله من ألم ويأس… لكن في النهاية شعرنا بأهمية أن نسمع جميعاً ما يقال في القلوب… كي نتذكر أن كل نظرة أو كلمة قد تحفر جرحاً فوق جرح وتترك ندبة فوق ندبة..

هذه حكايتي:

لطالما كنت أجد تبريرات لعدم تفاعلي مع محيطي في لحظات المآسي والوفاة، ودائماً ما كنت أجد مبرراً لي للتهرب من تقديم العزاء لأحد ما.. كانت المقارنة تقنعني دائماً بأن ألمي أشد وحزني أكبر… وأني لا أستطيع البكاء على غيري قبل أن أبكي كينونتي التي خسرتها وأن أنعي جسدي الذي تغير… فلم أعد أعرفه أو يعرفني.

أذكر أنهم أخذوا قدمي، دفنوها، أو ربما أجروا عيها التجارب. كان عمري حينها 20 عاماً، أعزل من كل شيء، أواجه العالم بمفردي… وعندما فقدت قدمي، فقدت معها الكثير… شغفي بالحياة، نزهتي في غابة الصنوبر، وبقية أحلامي.

ليس من الغريب أبداً أن أبقى في المنزل لشهرين متواصلين من غير أن أغادر سريري وبجانبي طرفي الصناعي ينتظر مثل حصانٍ أعرج. تغير إحساسي بالزمن فلا الماضي يعنيني، ولا المستقبل الذي كلما حاولت ان أطارده، تصدمني كل عوائق الدنيا فأعود لسريري لشهرين آخرين.

أعرف حقيقة واحدة أن طرفي الصناعي سيبقى بعد موتي جزءاً يخاله الناس مني، ولكني حتى اليوم لا أستطيع تقبله على أنه جزء مني، ففي لحظات الألم أشعر بقدمي، وهي لا تزال دافئة وتتحرك وأنظر إليها ولا أراها.

في الأمس كانت الشمس تشرق لي كل يوم عندما أركض، أما اليوم فهي تشرق مرة واحدة بالعام وربما أكثر

ماذا يخسر الإنسان عند خسارة شيء من جسده؟

كل شيء… لدي شعور داخلي أني خسرت احترامي لنفسي ككائن بشري، وفقدت مع قدمي كل شيء، فقدت الحب والأحلام وكرة القدم والتسلق والتنقل بلا مساعدة… في الأمس كانت فكرة أني أستطيع أن أتحرك في أي وقت أريده هي أسلوب حياتي، أما اليوم فإذا أردت أن أخرج في نزهة، أحتاج إلى مرافق، وساعات من التحضير، أقول هذا الكلام، لأني أعرف كيف كان الوقت في السابق، وكيف أعيش الوقت الآن، في السابق كنت أشعر بمكاني من المجتمع أما اليوم، فنظرات من كنت معهم البارحة، تقول لي أني كائن غريب، يستحق الشفقة والدعاء فقط، وأصبح كل ما أعيشه يجبرني على الهروب، ويصرخ في وجهي بأني كائن ناقص، فلا يوجد في مدينتي شيء بُني من أجلي سوى المشافي.