عبد الكريم عمرين
غادرنا المشفى العمالي عائدين إلى بيتنا، وكنا نسكن حي القصور بحمص، غادرنا مطمئنين، ففادي توقف تقريباً عن البكاء. صار هادئاً، وهو الهدوء الذي يسبق العاصفة. في البيت ولمدة أربعة أيام، زارنا الأقارب والأصدقاء، حاملين معهم الهدايا، زارنا أستاذنا فرحان بلبل، ومجلس إدارة فرقة المسرح العمالي بحمص، أعضاء المكتب التنفيذي في اتحاد عمال المحافظة، وبعض رؤساء وأعضاء النقابات العمالية، وكثير من الأطباء والصيادلة، وحضرت من دمشق أم زكي، خالة زوجتي لمساعدتها في الاعتناء بفادي وبشغل البيت، وتقديم الضيافة للمهنئين..
بدأ فادي يتكاسل، وتفتر حركته، وازداد شحوب وجهه، لكن النساء هنَّ النساء. عادت آلة الفتاوى والتفاسير وإبداء الرأي بحالة فادي، بل والجزم بالرأي… “إي طبيعي في ولاد هيك، يهدؤون لأيام وأسابيع ثم وفجأة ترين منهم العجب العجاب، بكاء، وحركة دائمة، إسهال وإقياء، وتبدأ الابتسامات، و تتبدى وتتمايز ملامحهم”. ويقول فريق آخر منهنَّ: “والله مو لها الدرجة، إيه الأولاد خصوصاً الصبيان، لا يهدؤون بالحركة، ويطلبون صدور أمهاتهم ويبدؤون التهام حلمات صدورهن بطريقة عصبية، يطلبون صدر الأم على عجلٍ وبكاء وكأنهم جوعى منذ قرون، يلتهمون حليب الثديين بقوة وهمّة ونشاط وسرعة، يتعرقون من فرط استعجالهم، ثم فجأة يبتعدون عن الحلمة التي أشبعتهم من جوع… إي هيك الرجال من صغرهن أكّالين نكَّارين”، تضيف الجارة ضاحكة، لكن الجارة الأخرى تعارضها: “ليس كل الرجل هيك يا أم تحسين، احكي عن زوجك بس”، فترد أم تحسين: “بالله؟ شو زوجك أنظم يامو أم زاهر؟ إي كل الرجال متل بعضهم”.
تأتي أم زكي بالحبوب والمغلي بصحونٍ صغيرة، وهذا الطبق هو القمح المطبوخ بالسكر مع المكسرات، الفستق الحلبي والكاجو أو الجوز أو ما تيسر من مكسرات حسب إمكانية الأسرة المادية، وفوق كل هذا الخليط رشة صغيرة من جوز الهند.
فادي نائم، يستيقظ قليلاً على أصوات النسوة، وعلى قراءة فناجين القهوة خصوصاً إذا حضرت امرأة معروفة بقراءة الفنجان، قراءة لا يطبُّ عليها طبيب كما تؤكد إحداهن، تشترك جميع النساء تقريباً بحب قراءة طالعهن بالفنجان، طبيبات ومهندسات مدرسات وموظفات وربات منازل، ربما نشأ هذا الحب عندهنَّ في قراءة طالعهن بسبب قمعهن الاجتماعي التاريخي، وربما بسبب أنّ واقعهن، تعليمهن، زواجهن، بيئتهنَّ ليست من اختيارهنَّ في الغالب الأعم… إنهنَّ يحلمن بالأفضل، الأفضل الغائب في حاضرهنَّ وظروفهنَّ.
لأربعة أيام تتكرر هذه المشاهد في بيتنا، ويصدفُ أن تطلب امرأة من ابنتها أن ترقص في هذه المناسبة السعيدة، فتقف الفتاة على حياء، مطرقة الرأس، بانتظار أن تصدح الموسيقى والغناء من آلة التسجيل. تبدأ الفتاة بالتلوي ببطء، لكنها سرعان ما تجعل من جسدها هارموني أنثوي، وسط تصفيق الحاضرات، وتشجيع أمها التي تفتخر بنضوج رمّان ابنتها، ووسط تمايل النساء طرباً وإحساساً عميقاً لديهنَّ بجمالهنَّ، وقناعتهنَّ أن لرقص الأنثى سحرٌ خاص، سحر تصنعه الراقصة لتحلّق في ملكوت آخر، سحر يصنع سدرته، يأمرُ ولا يُؤمر، يجذبُ ولا ينجذب، وسط كل هذا الكرنفال الأنثوي تعلن النساء أن الجمال هو البديل المشتهى ضد القبح، قبح العالم المادي، وقبح المجتمع الذكوري.
لكن التوجس والخوف عندي وعند زوجتي أخذا يسيطران على أرواحنا، خصوصاً، أن فادي ظهر لديه التهاب حاد في سرته، ولم تنفع المراهم، والتعقيم، ورش بودرة الأنتي بيوتيك في تراجع الاحمرار والالتهاب والوذمة التي بدأت تكبر، وزاد فتور فادي في طعامه، فلم يكترث لتناول صدر أمه، بل صارت رضاعته ضعيفة وامتصاصه بطيء.
في اليوم الخامس، استدعينا طبيب أطفال المستوصف العمالي إلى البيت، كان دكتور ربيع بنظارته السميكة وأسنانه الغليظة الصفراء ونظرته الثابتة، محدثاً بارعاً حين يتكلم في الطب، معلوماته النظرية الطبية ممتازة، وذاكرته قوية، إذ يستطيع أن يورد تشخيص أي مرض في طب الأطفال، بل يذكر وكرجل آلي أحياناً، التشخيص التفريقي، حيث إن مرضاً ما يحتاج تشخيصه لخمسة ظواهر أو علامات عند المريض، لكن لو اختلفت علامة واحدة من هذه العلامات، هنا يُشخصُّ المرض تشخيصاً آخر. قرر دكتور ربيع أن فادي بحاجة لدخول المشفى وإعطاءه السيروم وتغطيته بالأنتي بيوتيك وتغيير ضماد السرة بحذر. حملنا فادي واتجهنا إلى المشفى الوطني بحمص، لم نذهب إلى المشفى العمالي لأن المشفى لا يوجد فيه قسم للأطفال ولا أطباء متخصصين لهم.
ليومين أو ثلاثة، لم يستجب فادي للمضادات الحيوية، وصار أكثر شحوباً وارتفعت قيم البيلوربين في تحاليله الدموية وانخفض سكر الدم في الوقت ذاته، ودكتور ربيع يصبّرنا، ويشرح بإسهاب عن حالات مشابهة كثيرة في طب الأطفال، معللاً الأسباب ومنها قصة القسطرة البولية المجرثمة التي أجريت لفادي بعد ساعة أو أكثر قليلاً لولادته. الأسوأ أن دكتور ربيع كان يستعرض مهارته النظرية في الطب، وحفظه للمعلومات، لكنه لم ينجح في أن يجعل فادي يتعافى أو يتحسن على أقل تقدير، كما رفض بشكل قاطع أن نذهب بفادي إلى دمشق، حيث يوجد أساتذة كبار في اختصاص طب الأطفال.
كانت فطمة، أخت زوجتي صباح قد حضرت من دمشق ومعها ابنتها رفيف، وهي بعمر ابنتي رادا، لتهنئتنا بوليدنا فادي، وفطمة طبيبة مختصة بالأمراض الصدرية عند الأطفال. بنزق وحنان وحب صرخت في وجه أختها: “يا أختي أنت صيدلانية، والمفروض أن تدركي أن فادي في خطر، لسة قاعدين بحمص، على تجارب باستخدام هذا الدواء أو تغيير هذا الدواء”… ثم أضافت بقوة: “لك بحمص ما في أطباء شاطرين، خلينا نطلع فيه ع الشام”. قررنا أن نذهب بفادي إلى مشفى الأطفال، وهو مشفى ذو سمعة حسنة جداً، فيه أطباء باختصاصات مختلفة في طب الأطفال، وفيه كادر تمريضي مدرب وخبير، وفيه أيضاً أجهزة طبية وتشخيصية حديثة جداً، والأهم أن ثمة منظمة دولية تشرف على هذه المشفى، تُلزمه بالمعايير الدولية في الطبابة والإقامة والعلاج.
كان فادي قد بدأ بالدخول في غيبوبة والوقت مساء، اتصلت بأخي عبد الرحمن، قلت له: فادي متعب جداً، أريد سيارتك الآن، سأنقله إلى دمشق.
يتبع….