عبد الكريم عمرين
كانت زوجتي مديرة للصيدلية العمالية بحمص، كما كانت تشرف على صيدلية المشفى العمالي أيضاً، وقد سبقتني في انتقالها من دمشق إلى حمص، ولحقت بها بعد عام ونصف تقريباً، والحقيقة أنني تركت عملي في الاتحاد العام لنقابات العمال بدمشق كمشرف على الثقافة العمالية في سورية، وكمدير للمسرح العمالي في سورية أيضاً. هو عمل أحببته جداً ونجحت فيه أيما نجاح، وأمام ضغط زوجتي صباح، والأهم ابنتي رادا التي كانت تطلب مني ألا أبتعد عنها وأن أكون إلى جانبها في حمص، ولطبيعتي العاطفية الجامحة في حب أولادي، غادرت عملي في دمشق، وعينت في اتحاد عمال حمص بعقد عمل تسميتي فيه: مدير المشاريع الاجتماعية العمالية بحمص، وكنت أداوم بمكتبي في المستوصف العمالي الكائن في الطابق الأول من اتحاد عمال حمص.
أسوق هذا الشرح مستفيضاً قليلاً، ببعض الوقائع/ الأسباب. أقول الأسباب، لأن مأساة فادي حصلت بسبب تلك الوقائع والتسميات الوظيفية وممارستها على أرض الواقع. فقد جاء مخاض زوجتي نهاراً ودخلت المشفى العمالي وخصصوا لها الغرفة 206 وهي غرفة خاصة مخصصة لكبار الشخصيات من المرضى، ولأن إدارة المشفى والسلك الطبي والتمريضي والفني والإداري بذل كل ما في وسعه من الاهتمام بزوجتي باعتبار أننا نعمل في اتحاد عمال حمص، وأننا مدراء، والأهم أننا جئنا قبلها من قيادة الحركة النقابية في سورية بدمشق.
سويعات… وولدت زوجتي صباح وجاء فادي إلى هذه الدنيا مبتسماً، وقامت الدكتورة مها عرابي بالتعاون مع الممرضات بإلباسه الديارة الزرقاء، ودخلت فقبَّلتُ زوجتي وهنأتها بالسلامة وباركتُ لها بمولودنا، ثم قبَّلتُ فادي، حملته وضممته إلى صدري، وتمنيت له إقامة طيبة في هذه الدنيا، ابتسم لي ابتسامة خفيفة ثم غط في نوم قصير وسرعان ما استفاق باكياً. في مثل هذه المواقف وفي كل العائلات السورية، يكثر الجهابذة الذين يدلون بإرشادات إلى الأم أولاً ثم إلى أهل الطفل ويشيرون إليهم بما يجب عمله للمولود ابتداء من اقتراح سمك اللباس حسب فصل السنة، أو طريقة لفه باللفلافة، واقتراحات ما أنزل الله بها من سلطان عن ما يجب إعطاؤه فموياً، يقولون سيروم سكري، ثم يقولون ماء مقطر ومحلى، أو يجب إرضاعه فوراً، أو يجب أن ينام ليرتاح من المخاض القاسي، أو ليتكيف مع الطقس والأصوات. تشتهر النساء في هكذا اجتهادات، ويختلفنَ مع بعضهنَّ البعض ويوردن براهينهن على صحة أقوالهن من تجارب ولاداتهن، أو ولادات أقاربهن، ويختلفن وتبدأ حفلة زم شفاههن وطقوس الاغتياب النسائي رغم حضورهنَّ جميعهن في مكان واحد، فيقمن بعمل إشارات لبعضهن، وهذه الإشارات النسائية البحتة والمضحكة أحياناً لنا نحن الرجال، لا تصدر بالضرورة عن اختلاف آرائهن بل عن اتفاقهن أيضاً.
كل ذلك حدث بعد ولادة فادي، بل حدث بصورة مضخمة، خصوصاً أن بعض الممرضات اللواتي جئن من أمكنة ريفية أو شعبية، ساهمن في هذا الكرنفال والاجتهادات، لكن فادي ظل يبكي ربما احتجاجاً على ضجتهنَّ، وربما لم تعجبه الحياة، وربما، بل أكاد أجزم، أنّ كان لديه حدس ميتافيزيقي، بأن حياته ستكون ناقصة، وأن كارثةً ستحل بجسده وعقله، فظل يبكي ورفض رضاعة ثدي أمه.. هنا اجتهد طبيب الإسعاف الذي تخرج حديثاً من كلية الطب، وقال: لديه احتباس بولي و وهذا سبب بكاءه، يجب أن يتبول. لا أعرف حقيقةً كيف يُشخص الطبيب المتخرج حديثاً مرض مريضه. أعتقد أن ما يشغل تفكيره هو التميز بتشخيص ما، فلا يلجأ إلى التشخيص والعلاج بالأقرب كعرف طبي، بل يذهب إلى الأبعد، فيذهب بتشخيصه إلى الحالات النادرة أو الاستثنائية ويعلن بثقة تشخيصه.
المهم أن الطبيب قرر إجراء قسطرة بولية لفادي، وأراد أن يبيّض وجهه بأن يجعل فادي يسكت عن بكائه، فأحضر القسطرة الزجاجية، وقام بالقسطرة، وليته لم يفعل، وليته ما كان يعمل في المشفى وليته لم يكن طبيباً…
القسطرة كانت مجرثمة وانتقلت الجراثيم إلى جسد فادي.. وبدأت رحلة المعاناة الطويلة.. الطويلة والمؤلمة بآن معاً.
يتبع….