الإرادة

حكاية فادي 5: فصل الوجوه المصنعة من شمعٍ وصوان

عبد الكريم عمرين

بالكاد انتهى إبراهيم من تبديل الإطار وصار همّنا الأول والملحّ الوصول بفادي إلى مشفى الأطفال بدمشق، فالوقت ليس في صالح فادي، لكن هيهات، كيف لسيارة بلا إضاءة أن تنجز السرعة المطلوبة؟ وعدنا إلى قيادة السيارة بطريقة الإحساس بعجلاتها، أحاسيسنا كلها انجذبت إلى العجلات: هل مرَّ الدولاب على البانكيت؟ هل صدر صوتٌ خشّنٌ عن الإطارات؟

لم يجرؤ إبراهيم في جوٍّ مشحونٍ أن يتجاوز سرعة 30 كيلومتراً، وفادي ما زال في غيبوبته. يا إلهي، نحتاج تقريباً إلى ساعتين من الزمن للوصول إلى دمشق، صرت أحسب الحسابات الأسوأ، هل سنصل بفادي إلى المشفى؟ وهل سيصلُ حيّاً، صرتُ أتخيل نفسي في قسم الإسعاف في المشفى، والطبيب يقول لي خافضاً رأسه: العمر إلك وصلتم متأخرين للأسف، جنَّ جنوني. فجأة صرخت بإبراهيم: وقّف هون، أجابني إبراهيم: خير خال؟ شبك، فيك شي؟ ليش بدي وقّف، صرخت بأعلى صوتي وبغضب: وقف على اليمين، أجابني إبراهيم ودون أن يلتفت إليّ: بدنا نلحق المشفى، صرخت بقوة: عم قول لك وقف فوراً، عم تفهم؟.

ركن إبراهيم السيارة على يمين الطريق، بسرعةٍ فتحتُ باب السيارة وركضت كالمجنون، وقفتُ في منتصف الطريق ألوّح للسيارات أن تقف، لكن لا أحد يرد على استغاثتي وطلبي، ربما حسبوا أنّي مجنونٌ، أو مخمورٌ أو أنّ أحدهم يريد أن ينتحر، كانت السيارات تبتعد عني مسرعةً، وأصوات أبواقها وزماميرها، تشّق سكون الليل، وسمعت شتائماً من نوافذها، لكني لم أهتم، المهم أن أنقذ فادي. جاءت سيارة أخيراً من نوع التاكسي، صرتُ ألوّح لها بكلتا يديّ بجنونٍ واقفاً في منتصف الطريق.. صوتُ فراملٍ حاد جداً، وتوقفت السيارة أمامنا على بعد حوالي 25 متراً، ركضت نحوها كالمجنون، خاطبتُ سائقها بصوتٍ مخنوقٍ ورجاءٍ ولهفةٍ: أرجوك، معي طفلي بحالة إسعاف، أريد أن أوصله إلى مشفى الأطفال بدمشق. السائق لم يلتفت إليّ بل ظلّ وجهه الشمعيّ ينظر إلى الطريق تارةً وإلى المرآة المثبتة في البلور الأمامي تارةً أخرى، ألقيتُ نظرةً على المقعد الخلفي للسيارة، خلف السائق كان يجلس شابٌ طويل بمنكبين ضخمين وعضلات مفتولة ضخمة، ويضع في حضنه بارودةً روسية، وبالتفاتتي إليه أمسك ببارودته ووضعها بشكلٍ مصوبٍ إلى وجهي تقريباً، لم أكترث بنظراته العابسة المتجهمة وعضلاته المشدودة المتأهبة للنيل مني. ألقى الشاب نظرةً سريعة على الشخص الذي يجلس بجانبه منتظراً إشارةً منه. الجالس بجانب الشاب الضخم، رجلٌ نحيفٌ بوجهٍ حنطيّ اللون وعينين واسعتين وأنفٍ روماني، رجلٌ في أواسط الأربعينات من العمر، كان يراقبني بهدوءٍ مبدياً عدم الاكتراث، إذ يلتفت إلى يمين الطريق ثم يعود لينظر إلى ذاك الشخص الذي يرجو السائق، بل يتوسل إليه أن يقدم له خدمة توصيله إلى مشفى الأطفال بدمشق. عُدّتُ ألحّ بطلبي إلى السائق وإلى الرجل الذي بجانبه أيضاً وهو رجل قصير يلبس بنطلوناً وسترةٍ بلون الكاكي، بينما السائق الذي يلبس سترةً سوداء وبنطلوناً أسود أيضاً، ظلّ على حاله من حيث الصمت، بل زادت شمعية وجهه. بعد أنّ عدتُ إلى الرجاء والتوسل بصوتٍ متهدجٍ وانكسار، نظر في المرآة مجدداً ينتظر إشارة الجالس في الخلف. أخيراً، التفت إليّ قائلاً: احكي مع المعلم وأشار لي بإبهامه إلى الخلف، كان الرجل الحنطي بطقمٍ أزرق اللون وكرافات صفراء يشعل سيجارةً من قداحته، قال لي: اطلع معنا سنوصلك أنت وابنك حيث تريد، أنا المقدم غسان من الأمن السياسي. بسرعةٍ وبلحظات، قررتُ أني لن أركب مع فادي بسيارة المقدم. قلت: سيادة المقدم أشكرك، لكن سيارتكم لا تتسع لراكبٍ إضافيّ، ولا أستطيع أن أترك أخت زوجتي وابنتها الصغيرة وابن أختي في هذا الليل، لكن لو سمحت، سيارتكم من نوع المازدا وإضاءة الفلاشر فيها قوية بسبب كبر واتساع مصابيحها. قاطعني المقدم: شو بتريد؟ قلت سنمشي وراءكم بسيارتنا، وأرجو من السائق أن يبقي إضاءة الفلاشر، وأن يحافظ على مسافةٍ مقبولة بيننا أثناء المسير وكذلك سنفعل نحن، وعند مدخل دمشق يمكننا أن نفترق، فإضاءة الشوارع كفيلة بأن تجعلنا نبصر جيداً الطريق إلى مشفى الأطفال. أجاب وهو ينفث دخانه الكثيف من فمه: تكرم. وخاطب السائق: سمعت يا إبني؟ أجابه السائق: نعم سيدي.. محسوبك. نظرت إلى المقدم نظرة امتنان وكدت أن أبكي وأنا أشكره، وركضت إلى سياراتنا المتوقفة، وصعدت وأمسكت بمقودها وانطلقت.

قال لي إبراهيم: خال ما بصير تسوق السيارة وأنت على هذه الحال، أنت شايف حالك شقد عصبي ومتوتر؟ قلت لإبراهيم: سنمشي خلف هذه السيارة. سنفترق بسيارتنا مع السيارة التي أمامنا وهي لمقدم في الأمن عند مدخل دمشق، وأنت لا تعرف دمشق، أنا أعرفها وأعرف أقصر الطرق للوصول إلى المشفى، دمشق التي سكنتها 11 عاماً أحفظها عن ظهر قلب، وأريد أن أكسب الوقت بمعرفة طرقاتها.

يتبع….