عبد الكريم عمرين
خمسة أيام وفادي في الحاضنة، وخمسة أيام، وأنا في أروقة المشفى، أو على رصيفها، ألتهم السجائر وأتناول لقيمات من بسطة فقير يبيع البسكويت أو أقف عند بائع المناقيش، يسألني ماذا أريد، فطائر بالجبنة أم بالزعتر أم بيتزا؟ فأجيبه: أي شي ع زوقك، يقدم لي منقوشة أو اثنتين، وأنا أراقب نار الفرن تتأجج وعامل الفرن الذي يهتز يمنة ويسرة بلا توقف عامل الفرن النحيف الأسمر بمريوله الأبيض أو الذي كان أبيض، عامل الفرن الذي يلف رأسه بعصابة رمادية وتتدلى من شفتيه سيجارة من نوع حمراء وطنية الصنع والتي تنطفئ سريعا، فيشعلها من جديد دون أن يتوقف عن هز جسده، أقدم لبائع المناقيش ما بحوزتي من نقود، فيأخذ الثمن ويعيد لي الباقي، لكنه بعد يومين من مداومتي على شراء ما يسد رمقي، صار يأخذ مني نقودي، فيمثل أنه أخذ ما يستحقه، ثم يعيد لي كامل نقودي، قائلاً بأسى: الله يعوض عليك ويفرج همك، ويشفي لك مريضك، ويدعوني لشرب الشاي، لكني أنسحب بصمت، وأعود إلى ركن على الرصيف الذي صار ركني، صرت جزءاً من المكان، جزءاً جامداً ينتظر معجزة: شفاء فادي.
بعد أيام خمسة وترددي على قسم الحواضن، وانتظار طويل وسرقة نظرات عندما يفتح بابه، خرجت د. نازك، اقتربت مني قالت حضرتك والد فادي، قلت محدقاً في عينيها من وراء نظارتها السميكة: نعم أنا، خير؟ فادي بخير؟ أرجوك يا دكتورة، قالت: فادي صار بوضع مستقر، عند كلمة مستقر، كدت أن أبكي فرحاً، كدت أضمها، بل أقبل يديها لهذه البشارة العظيمة، قلت لها وأنا أتمتم: شكراً شكراً، الحمد لله، الحمد لله، لكنها أردفت: أوراق فادي من تحاليل وصور وتشخيص موجودة في هذا الظرف، تستطيع أن تأخذها معك إلى بيتكم، وتأخذ فادي طبعاً، انحنيت لها احتراماً وشكراً، وأردفت: كان الله في عونك، بدها صبر، دارت الدنيا بي سبعين دورة أو أكثر رفعت رأسي ذاهلاً مستطلعاً مستفهماً عبارتها الأخيرة، أجابتني دون سؤال: تشخيص مرض فادي النهائي، شلل رباعي متوسط الشدة بسبب انعدام السكر بالدم وارتفاع نسبة البيلوروبين عند دخوله مشفانا.
أمام باب المشفى وقفت أحمل فادي وأوراق المشفى مذهولاً، مرت سيارة حمراء تقودها فتاة بيضاء بنظارات سوداء وفي داخل السيارة صويحباتها يتمايلن بغنج وضحك هيستيري على أنغام أغنية للمطرب الصاعد جورج وسوف، كادت السيارة تدهسني، ضاع صوت فراملها الحاد، بصوت ضحكات الصبايا داخلها الأكثر حدة ومجوناً، ضممت فادي إلى صدري بقوة، وأطلقت شتيمة مقذعة بحق فتيات الجنون والهيستريا، شتمت جورج وسوف وشرطي السير الذي ظل واقفاً بجمود كأبي الهول، اقتربت سيارة بلون أصفر مني، مد السائق العجوز رأسه، وسألني بلهجة دمشقية عتيقة: وين بتحب وصلك أستاذ؟ دلفت إلى السيارة وركبت بجانبه دون أن أنبس بكلمة، أعاد السائق سؤاله: وين يلا السلامة حبيب قلبي؟ لوين سيد راسي؟ قلت وأنا أحدق بوجه فادي النائم: كراجات البولمان.
لم يسكت السائق العجوز طوال طريقنا إلى الكراجات، قال: ابنك مو موهيك؟ ابنك ولا بنتك الله يسلم؟ لم أرد، استرسل العجوز: حلوين الولاد، الولاد حلوين هنن وصغار، بس صاروا كبار شوف الغلاظة وتقل الدم، خصوصاً الصبيان، أنا عندي تسعة أولاد، خمسة من أول مرا، وأربعة من تاني مرا، الله وكيلك بحبهن من كل قلبي، بس هنن مو كتير بياخدوا وبيعطوا معي، أخي السبب النسوان يخرب بيت النسوان كل وحدة بتعلم ولادها عليي وعلى ولاد ضرتها بس أنا بعجبك ومحسوبك حبيب قلبي، لك أنا مدوخ عنتر مابدي دوّخ نسواني؟ وضحك ضحكة مجلجلة فاتحاً فمه إلى آخره فسقطت بدلة أسنانه في حضنه، وقال بغضب: الله لا يوفقه دكتور الأسنان ما عرف يعمل لي بدلة أسنان مرتبة ليكها كبيرة وعم تخجق خجق، لا عم بتهنى بالأكل ولا بالشرب، لك ولا عم بتهنى، ولا حياء في الدين ببوسة أي زوجة عندي، بكرة بدي روح ع دكتور أسناني واحكي معه مظبوط، والله لفرجيه نجوم الضهر، ولك أخد مني هداك المبلغ، ولا عرف يظبط لي بدلة أسنان مرتبة. وظل السائق العجوز المهذار يتكلم دون أن ألتفت إليه كنت أضم فادي وأحدق في وجهه، السائق قال: الله يسلم هالصبي، أكيد صبي، أخي لاتسألني كيف عرفت، أنا عندي فراسة، بعرف كل شي، هالصبي الله يحميه راح يطلع دكتور أو مهندس، وراح تفرح فيه وتزوجه، راح يكون عون إلك بكبرتك، يعني وقت بتصير ختيار شروايي… هاه وهاي وصلنا ع الكراج، بالسلامة سيد راسي، وين مسافر يلا السلامة؟ وليش معك هالصبي؟ وين أمه؟ أنت ساكن بالشام؟ لم أرد، تابع السائق: العجوز وهو يميل بجسده إلي ويبوح: بتعرف؟ أقسم بالله عم فكر اتجوز وحدة تالتة، لاتقول أني ختيار؟ أخي ختيار ختيار، بس امرأة جديدة بترجعني شب ابن عشرين الله وكيلك، وسألني وهو يركن سيارته أمام الكراج: أنت كم زوجة عندك؟ وحدة بس؟ وضحك ضحكة مجلجلة، وسقطت من جديد بدلة أسنانه عند دعسة الفرام، قل لي بحياة محمد، كم مرا عندك، أجبته باقتضاب: أنت شقد بدك أجرة الطريق؟ أجابني اللي بيطلع من خاطرك سيدو، رميت في حضنه النقود، وهي أكثر مما يتوجب علي دفعه، ومشيت مسرعاً إلى مكتب الحجز، ولهفي أن أصل إلى حمص بلحظات…
يتبع….