عبد الكريم عمرين
قالت: حواضن الأطفال في الطابق الثاني، غادرت بسرعة، سمعت صوتها خلفي يغيب تدريجياً “الله يشفي لك فادي، خلي أملك بالله كبير..”. لم أنتظر حضور المصعد، بل صرتُ أقفز على الدرج صاعداً، حمدتُ ربي أن فادي تم إعطاؤه الدم اللازم في الوقت المناسب، وغمر قلبي الرضى والطمأنينة، فجهدي وتعبي في جلب أكياس الدم لم يذهبْ سدى، صحيح أن الدم الذي أحضرته لم يعطوه لفادي، فقد منحوه دماً من براد المشفى، لكن ما أحضرته أنا سيذهب إلى طفل أو طفلة.
وصلتُ إلى قسم حواضن الأطفال، الباب مغلق، طرقته طرقاً خفيفاً، لم يردّ أحدٌ، فطرقته بقوة، فُتح الباب سريعاً وأطلت منه ممرضة تدلت من عنقها سمَّاعةٌ طبية، فوق مصحف صغير من الذهب، كانت بيضاء مثل الثلج بعينين واسعتين سوداوين وشفتين صغيرتين غطتهما حمرة وردية، مسحت خدها بظاهر يدها التي حملت مقياس الحرارة الزئبقي وسألتني بنزق بارد: ماذا تريد؟، قلت: أريد أن أرى ابني، قالت بسرعة، واستدارت لتغلق الباب: ممنوع. وضعت رجلي لمنع الباب من الانغلاق. وبغضب حاد وإصرار، وبصوت مرتفع قلت: بل سأراه، ما في قوة فوق وجه الأرض تمنعني من مشاهدة ولدي. لاحظت الممرضة أن إصراري وتجهمي سيخلق لها المتاعب، وسيتسبب في ضجيج يزعج المرضى الأطفال، وسيخرق نظام المشفى برمته. قالت مبتسمة وهي ترد خصلة من شعرها الطويل الفاحم: معك حق، شو اسمه ابنك؟ قلت: اسمه فادي، قالت: فادي موجود عندنا في الحاضنة، وصل منذ ساعتين، وسأسمح لك برؤيته.. لكن..، قلت وقد هدأت قليلاً: شو لكن؟ يعني لكن شو؟ قالت بصوت رخيم وناعم: عليك أن تلبس لباس التمريض المعقم، وتضع على رأسك طاقية وعلى فمك كمامة، وتخلع حذاءك وتلبس حذاء طبياً معقماً، وأمام استغرابي واندهاشي تابعت: قسم الحواضن معقم كغرف العمليات، ووضع الأطفال في القسم حرج، أي فيروس سيدخل معك قد يقضي على أحدهم أو بعضهم، هل تريد أن يكون ابنك لا سمح الله في حالة سيئة، أجبت: لا.. بالتأكيد لا، أنا فقط أريد أن أطمئن على فادي، وبابتسامة عذبة قالت: اسمع سأخالف اللوائح كرمى للهفتك كأب، سأسمح لك بالنظر من بعيد، وحيث تقف لتراه، فادي في أقرب حاضنة إلى الباب وتستطيع أن تراه.. بعد صمت قصير قلت لها وأنا مطرق الرأس: حاضر، أشكرك يا بنت الناس، قالت مبتسمة وهي تهز ميزان الحرارة الزئبقي: لكن ليس أكثر من 15 ثانية.
فتحت الممرضة الباب وأشارت إلى الحاضنة التي يستلقي فيها فادي، قالت: هذا فادي. كان فادي يغيب في نوم أو سبات مستلقياً على ظهره مغمض العينين في علبة من البلاستيك الشفاف والتي يسمونها حاضنة، لا أعرف إن كانت تسمية هذا البيت البلاستيكي الصغير موفقة، فالحاضنة تحتضن، والحضن حب ودفء وإشارات بيوكيميائية مبثوثة أو مرسلة من فضاء إنساني أمومي إلى الطفل، هنا لا شيء من هذا القبيل، فقط أنابيب بلاستيكية تمرر السيروم أو الأوكسجين إلى الطفل، لا شيء يدل على الحركة أو الحياة سوى صوت المونيتور وشاشته اللذين يعلنان عن أن المريض مازال على قيد الحياة، عيناي مسمرتان على وجه فادي فقد بدا لي متورد الوجه، صرتُ أناجيه وأخاطبه: استيقظ يا بني أرجوك، الحياة بانتظارك والوقت سيمنحك النمو، هيا يا فادي تعال، سنعود إلى بيتنا، سأمنحك عمري، سأشتري لك الحليب المحلى والشوكولا وأزهى الثياب، سنذهب إلى الحدائق نرتع ونلعب، سنركب الأراجيح معاً وأقطف لك الأزهار، المدرسة بانتظارك سنهجئ حروف اللغة معاً والكلمات، نرسم طيراً، قطاراً، وسماء زرقاء صافية، سأشتري لك أورغ لتعزف عليه ونغني معاً، ثم.. ثم.. أحضرُ حفل تخرجك من الجامعة، سوف أساعدك بشراء بيت صغير لك، وانتقاء عروسك، لا يا ولد أنت من تنتقي عروسك، وأنا سأوافق فوراً، فأنا أعرف أنك تحبها، وأعرف أنها شغوفة بك، هيا يا ولدي يا حبيبي استيقظ وأنت بتمام العافية، لكن فادي لم يستيقظ، أنا من استيقظ على صوت الممرضة وهي تهزني من كتفي: أستاذ رجاء قلت لك أسمح لك برؤية ابنك ل 15 ثانية فقط، وأنت هنا منذ 5 دقائق متسمر بالباب ولا تسمعني، اعتذرتُ للممرضة التي دفعتني بباطن يدها وهي غاضبة وأغلقت بوجهي باب قسم الحواضن.
نزلتُ الدرج وأنا أهذي تقريباً وأستند إلى الجدران، خرجتُ من باب المشفى، جلست على الرصيف، أمج تبغي بشراهة، بينما كان الصباح يعلن حضوره في سماء دمشق، ونوافذ مشفى المواساة المقابلة لمشفى الأطفال مضاءة، فجأة دوى صوت سيارة إسعاف يعلن عن قدوم مريض جديد إلى مشفى الأطفال، هُرِع الممرضون والمسعفون إلى إدخال الطفل إلى المشفى، الضوء الأحمر اللواح لسيارة الإسعاف يمسح المكان، ونشيج أم الطفل التي هرولت خلف ولدها وهي تلهث باكية، بينما داهمني صوت المونيتور فوق حاضنة فادي: تيك.. تيك.. تيك.
نمتُ على الرصيف، وغابت دمشق عني وغبت عنها…
يتبع…