الإرادة

فريدا: تجربة فنية للألم في السينما/ أنا لا أرسم أحلامي، أنا أرسم الواقع

خليل سرحيل

الفن دائماً ما يكون واحداً من أقوى وسائل التعبير عن الألم وتعقيدات النفسية البشرية. يُظهر لنا الفن كيف يمكن أن يتحول الألم والمعاناة إلى تحف فنية تعبر عن التجارب الإنسانية بأعمق الطرق. ومن بين الأفلام التي استطاعت نقل هذه التجربة بشكل استثنائي هو فيلم “فريدا”.

الفن كوسيلة للتعبير والشفاء

تعتبر فريدا كالو واحدة من أشهر الرسامات في التاريخ، وكانت حياتها مليئة بالألم والإبداع. في سنة 1925، تعرضت فريدا لحادث سير مروع أثر على حياتها بشكل دائم. الحادث ألحق بها إصابات خطيرة في العمود الفقري والجمجمة والأضلاع، مما أدى إلى تعايشها مع الألم الجسدي المستمر.

بدأت فريدا في الرسم أثناء فترة نقاهتها من الإصابة، اكتشفت قوتها الإبداعية وأصبح الفن وسيلة تنقل تجربة الألم بأسلوب مذهل. لوحاتها التي تعكس عوالمها الداخلية المضطربة، تجمع بين الجمال والوجع في مشاهد تعبث بالعقل وتتحدى القلب.

يُظهر فيلم “فريدا” كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة للتعبير عن الألم والشفاء. ُتلهم فريدا المشاهد بقوتها وإرادتها في مواجهة الألم والنضال من أجل الإبداع. يجعلنا الفيلم ندرك أن الفن يمكن أن يكون مصدرًا للتغيير والمقاومة، وأنه يمكن للإبداع أن ينشر رسائل قوية عن القوة والإصرار في وجه الصعاب.

الفيلم من اخراج جوليا تيمور وصدر في عام 2002، وحاز على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة نالتها الفنانة سلمى حايك، التي أدت أحد أجمل أدوارها في فريدا. وجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية، وجائزة الأسد الذهبي للمخرجة.

قصة حياة مليئة بالألم والإبداع

يحكي الفيلم حياة فريدا الجامحة لحد الجنون، ويستعرض بأسلوب درامي أحداث حياتها ويغوص بالمشاهد نحو تفاصيلها العميقة، بين الألم وطريق المجد والمعاناة مع الأمراض والخيانات الزوجية المتكررة من قبل زوجها، إلى الإجهاض والإدمان وصولاً الى النهاية المثيرة للجدل حتى يومنا هذا.

إنه فيلم ليس عن الفن وحده، بل يتجاوز الفن والرسم إلى الحياة السياسية في المكسيك والحركة الشيوعية المكسيكية التي اعتنقتها فريدا وناصرتها في جميع القضايا، وتقود مع زوجها الرسام دييغو ريفيرا أولى المظاهرات لدعم العمال والفلاحين في رسالة واضحة عن ذات الفنانة الحرة التي لا تساوم في حقوق الجميع، بل وتحارب من أجل تحقيق أحلامهم.

يسرد الفيلم حياة فريدا بكل تعقيداتها، بدءًا من الحادث المروع وصولاً إلى أعمالها الفنية وعلاقتها مع زوجها الرسام دييغو ريفيرا، مروراً بدفاعها عن المرأة المكسيكية، وتبنيها هوية السكان الأصليين للمكسيك رغم أصولها الألمانية. في الفلم نرى محاولاتها كي تصبح أماً ونرى معاناتها من الخيانة والأمراض التي لا تنتهي. كل ذلك في طريقها نحو هدف واحد، وهو إقامة أول معرض للرسم لها في بلدها المكسيك.

تم تصوير الفيلم في المكسيك، في بيت الرسامة فريدا. الذي تحول إلى متحف تعرض فيه لوحاتها، ومقتنياتها الشخصية بعد وفاتها.

لم يعرف تحديدا سبب وفاة فريدا وكثرت الإشاعات حول وفاتها التي حدثت عام 1954 بعد أن أقامت معرضها الأول في بلدها المكسيك. وهكذا انتهت حياة فريدا لتتحول بعد وفاتها الى ايقونة ثورية نسوية يردد اسمها حتى اليوم.

تجربة فنية كدرس للإلهام

رتم الفيلم سريع، لعبت الموسيقى دوراً بارزاً في تمكين هويته. وربما كان هذا التقارب بين الإخراج والموسيقى سببه أن المخرجة هي زوجة الموسيقي اليوت غولدنثال، الفنان الذي صنع موسيقى الفيلم وحاز الأوسكار عليها.

الحبكة سريعة يبدأ الفيلم بحركة الخطف خلفاً، تكون النهاية هي البداية. وبين جموح الكاميرا وحركتها الدائرية ودهاء الموسيقى، تصل فريدا إلى عقول المشاهدين، تحمل لوحاتها وتمضي حول العالم، تجاهر بالقضايا وتعترف بالألم لا بل تعتبره مذهبها.

تظهر لوحات فريدا في الفيلم بأكثر من طريقة، تحكي بعض رسوماتها عن الألم والبعض الآخر عن ميولها الجنسية المزدوجة، وعن أمومتها وجسدها المريض. يرى المشاهد النيران تحترق في السرير وفي الرسومات. كل هذا يحدث بسبب حركة الكاميرا التي يوجهها المصور المكسيكي روديجو برييتو الذي تعاون مع سكورسيزي واليخاندرو ايناريتو. وهنا نرى أن هذه الخيارات هي من صنع نجاح الفيلم، لإيصال صورة حقيقية عن فريدا الحمامة المكسيكية.

تأتي أهمية الأفلام التي تناقش حياة الفنانين، في محاولة لأنسنة الفن والتعرف عليه، وعلى مسبباته والحوافز التي خلقته وأظهرته للمجتمعات. الآن يمكننا معرفة فريدا كإنسانة قبل أن تكون فنانة، وفي هذا رسالة للمشاهد ليتعلم وليعرف كيف تصنع الفن من المعاناة.

هناك أكثر من عشرة أفلام صنعت من أجل فريدا بين الدراما والتوثيقي. وإن دل هذا على شيء فأنه يدل على القيمة الفنية التي أضافتها فريدا لبلدها المكسيك أولاُ، وللفن في العالم كله ثانياً.