رانيا عبد المغفور
الساعة التاسعة وأثنتا وأربعون دقيقة مساءً،
أتنفس الصعداء، أشعر الآن براحة عارمة. راحة خالية من الفرح أو السعادة أو الحماس… تنهيدة طويلة تكاد تلمس سقف غرفة الجلوس… أتمدد على الكنبة وأمسك بهاتفي كمن يمسك بزجاجة أكسجين.
نامت ابنتي الصغيرة.
نامت أمي الكبيرة.
أشعر كأني أزحت ثقلاً عن قلبي، أشعر بالذنب. أبدأ رحلة التصفح. رحلة التخفف. ها أنا أعيش كامرأة طبيعية تتمدد على الكنبة وتمسك موبايلها وتقلب عشرين مقطع فيديو وراء بعضها عن الطبخ والسياسة والفنانين والماكياج، لا أكمل واحـداً منها. أفكر لماذا أحب هذه اللحظات، كأني ألهث خلال ساعات يومي لأصل للحظات ما قبل النوم. ربما لأن هذا الوقت لي وحدي، أو ليس لدي مسؤوليات تجاه أحد، أو لأني تمكنت من اجتياز يوم آخر في هذه الحياة. هذه الحياة التي أمضيها ضاحكة ومهرجة وساخرة لأني لا أجرؤ أن أقول لأحد أني أراها مظلمة، فارغة ومرعبة.
أسمع شخير أمي يأتي من غرفتها متعالياً كأنين جنين صدمه الضوء. أترك هاتفي “مرعوبة” وأقوم لأتأكد أن ابنتي لم تستيقظ. أطلب من أمي أن تغير من طريقة نومها. أقرر أن أغلق باب الغرفة عليهما كي لا أسمع الشخير ولا يسمعا أصوات فيديوهاتي، ثم أقرر فتحه من جديد.
أعود لرحلتي في التصفح. أحضر لقاء لفنانة تتحدث عن محبتها لأمها وأنها السبب في كل ما حدث في حياتها. أتخيل أنني أقول نفس الكلام، ولكن في محكمة، أقول للقاضي، أمي هي السبب في كل ما حدث في حياتي، لذا لا أريد لها النوم في غرفتي بعد اليوم.
أتأمل أن يحكم القاضي بأني شخص جيد، وأن ما أعيشه ليس عادلاً على الإطلاق. أتخيل القاضي يقول أن على الجميع محاولة فهم ما لا يفهمونه وأن عليهم بطريقة أو بأخرى مشاركتي في هذا الألم.
أفكر بترتيب النوم لهذه الليلة. أقرر أن أنام على الكنبة كالعادة. أتردد هل أحضر ابنتي لتنام على الكنبة الأخرى، لكنها قد تقع منها كما وقعت في تلك الليلة. أم أتركها تنام مع أمي وأجازف بأن تستيقظ فلا أسمعها. أفكر لأجزاء من الثانية أن أنام بجانب ابنتي حيث يتسع السرير لنا، لكني لا أتحمل الفكرة. لا يمكن أن نجتمع ثلاثتنا في غرفة واحدة لساعات. هذا فوق قدرتي على الاحتمال.
أمي مصابة بالخرف منذ خمس سنوات. وابنتي لديها توحد وهي في التاسعة الآن.
يمر أمامي فيديو عن فوائد اليوغا للأشخاص الذين يعانون من الضغط النفسي والتوتر “مثلي”. أفكر في قضاء نصف ساعة من التأمل الصامت وأغرق في الكنبة مع ابتسامة مكبوتة فأنا أمضي أيامي في صمت رهيب… أنا تقريباً لا أتحدث مع أحد. أشعر وكأنني في بحث لا ينتهي لملء هذا الصمت. لا أعمل. ترسل لي أختي من ألمانيا 300 دولار كل ستة أشهر، ويرسل لي والد ابنتي 70 دولاراً شهرياً. أفكر، في هذا الحي، أنا الوحيدة التي تقبض بالدولار، وأبتسم. أبتسم حتى أكاد أضحك.. أتوصل إلى نتيجة أن اليوغا لن تستطيع تخفيف كآبتي بل السخرية من هذا القدر الذي قضم حياتي قطعة قطعة دون أن أستطيع إيقافه.
لا تعرفني امي، تتذكرني أحياناً وعندما تناديني باسمي أشعر أني عدت طفلة وأتمنى أن أرتمي بحضنها وأحكي لها عن ابنتي التي تعرفني بالتأكيد لكنها لا تستطيع نطق اسمي إلا نادراً. كلتاهما تعيشان عالميهما الخاصين. أمني نفسي بالقول أنه ربما يكون أفضل من عالمنا.
أحضر فيديو لصحفي يحلل الوضع السوري من جديد، أخفض الصوت قليلاً. يقول الكلام نفسه منذ سنين وأنا أواظب على حضوره منذ سنين. والوضع السوري منذ سنين وهو يتحلل كجيفة التم حولها كل ذباب الكون.
لا أخجل من تعاستي إلا أمام هذه البلاد، التي أحمل قدرها. فقد خسر كلانا أكثر مما يستطيع احتماله.