عبد الكريم عمرين
في بداية الطقوس المسرحية الإغريقية، تطلب الجوقة من ديونيسوس أن يحلَّ في الذبيحة، وهي من الماعز، وعند لحظة الحلول، يذبحون أضحيتهم ويأكلونها، وإذ ذاك يحل ديونيسوس فيهم. وبذلك تحل بهم روح التخطي، ويثقون أن الإله سيمنحهم موسماً طيباً لعنبهم. ومن هنا جاءت كلمة تراجيديا التي تعني حرفياً “أغنية الماعز”. لأن ديونيسوس هو إله ابن إله، وهو إله الكرمة وعصيرها، والده زيوس رب الأرباب عند الإغريق، ويقابلهما عند الرومان باخوس، وجوبيتر.
إذن فجوهر الاحتفالات المسرحية أيام الإغريق يكمن، في أنه يخلق لدى المحتفلين، الذين هم في الأساس الكورس ومن حضر من البشر ككتلة واحدة، أن يخلق فيهم روح التخطي، الجرأة والتجاوز والخيال، روح التحدي لكن عبر إله شعبي هو ديونيسوس، ولن يستطيع إنسان أن يملك هذي الروح، فروح الإنسان أصلاً منتهكة من المعتقد السياسي والفلسفي السائد، ومستسلمة له، لن يستطيع الإنسان الإغريقي أن يتمرد ويتحرر، على ومن، منظومة المعتقدات، لن يستطيع أن يتغلب أو يتخلص من مأساته، إلا إذا تجسدت فيه روح ديونيسوس، التي تأخذ بالإنسان إلى الفن والجمال والمتعة، وتتطهر من بؤس الواقع المعيشي.
وقد تطورت هذه الاحتفالات بديونيسيوس والدونيسيوسية، إلى شكل أرقى، وقام سوفوكليس ويوروبيدس وأريستوفانيس بتأليف وتجسيد وتقديم عروض مسرحية، أساسها العقل والخيال الأدبي والفني، ومحتواها حكايات فيها الحكمة والأمثولة، عبر شخصيات من لحم ودم تحرّض على الفضائل، وتبعث في المشاهد السمو الإنساني، وتثير فيه المشاعر والعواطف النبيلة، التي “تطهره” بتعبير أرسطو، فتفصل بين الدنس والخطأ الذي في داخله، وبين النبل والفضائل في ذات المكان، فتبعد الأول وترسخ الثاني، ومن هنا يتأتى سرورنا واللذة التي نحصل عليها، من خلال مشاهدتنا للعروض المسرحية، فيصبح الواحد منا عقلاً وعاقلاً ومعقولاً بآن معاً.
الجزء الأول
لقد تطور مفهوم ووظيفة ودور المسرح عبر تاريخ البشرية بتطور المجتمعات الإنسانية، وعبَّر دائماً عن تحولات المجتمعات الكبرى، محتلاً دور الريادة في جديد الفكر الإنساني، وانحاز دائماً إلى جانب الحق والخير والجمال.
في أواخر القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين، ظهرت دراما جديدة في المسرح، اصطلح على تسميتها بسيكودراما، وهي تعنى بالجانب النفسي لأبطال القصص والحكايات المسرحية، وسرعان ما اكتشف أن هذه البسيكودراما هي خير علاج لذوي الإعاقة في العالم الغربي، إذ جعلتها المنظمات الصحية العالمية ومراكز العناية الطبية والنفسية ودور الرعاية، من صلب عملها في علاج وتحسين الصحة البدنية والنفسية لذوي الاحتياجات الخاصة وذوي الإعاقات المختلفة، خصوصاً وأن هذه الإعاقات تشكل بنسبة تزيد أو تنقص قليلاً عن 15- 20% من تعداد سكان المجتمعات البشرية.
لقد كشف المسرح عن دوره الساحر في علاج تلك الفئة غير القليلة من سكان المعمورة، علاج يمكن أن يكون كلياً ونهائياً أو جزئياً. عدا دوره التربوي والتعليمي. وفي وطننا العربي حذت المنظمات الصحية والإنسانية الحكومية والأهلية حذو زميلاتها في الغرب فقدمت أعمالاً مسرحية في العديد من الدول العربية، وبرز من هذه الدول دول الخليج، ومصر والجزائر وسورية.
وعن الدور التربوي والتعليمي فيما يسمى مسرحة المناهج التعليمية للتلاميذ الطبيعيين أو لذوي الاحتياجات الخاصة، فقد ثبت بعد تجارب وممارسات منهجية عدة أن فوائدها وخصوصاً لذوي الاحتياجات الخاصة تتلخص بالنقاط التالية:
1- العمل على إكساب المتعلمين ثروة لغوية راقية.
2- الكشف عن المواهب الفنية وتفجير الطاقات الإبداعية، العمل على تعزيز مهارات التفكير.
3- تنمية خيال التلميذ، تنمية الذوق الجمالي والفني، التدريب على العمل الجماعي.
4- تنمية العلاقات الاجتماعية، تطوير مهارات التواصل لديهم، تعميق مفهوم القدوة.
5- عالج عيوب النطق وبعض المشكلات النفسية مثل الانطواء والخجل والتردد. (1)
في الولايات المتحدة الأمريكية عمل مركز (NCAH ) اختصارا لمركز الفنون القومي للمعوقين بالتعاون مع مركز جون كنيدي لأداء الفنون، إلى استخدام جميع الفنون لتعليم الأطفال، وقد ساعد هذا المركز في مساندة وتدعيم العديد من الأبحاث من خلال المساعدة التقنية، والأنشطة والبرامج والاحتفالات، وقد استطاع المركز وضع برنامج فني في التعليم يشتمل على التكامل بين جميع الفنون، ويجئ في مقدمة هذه الفنون “الدراما المسرحية ومن أهم النماذج التي صممت في هذا المركز في كيفية استخدام فن الدراما والمسرح لخدمة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة هي كالتالي :
النموذج1: وهو “المسرح الشامل غير المحدود الذي يعتمد على مسرح الصم من خلال مجموعة الممثلين (الصم والسامعين) الذين يعطون إرشادات عن التدريب المسرحي فيزودون المشاهدين بخبرات حسية جديدة.
النموذج 2: هو ” المعسكر المفتوح وهذا النموذج موجه لذوي الإعاقة العقلية والجسدية والحسية، وغرضه زيادة قدرة الأطفال على التعبير الحر عن ذواتهم، وإتاحة الفرصة للنمو والتطور الجسدي والشفهي وفي الاتصال مع المجتمع.
النموذج 3: هو “مجموعة قوس قزح التي تقدم مسرح الأطفال من خلال الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة لكل الأطفال، وقد لاقت هذه المجموعة الاستحسان، والمديح، والتشجيع، والمتعة.
تتعدد الرؤى والأساليب والمضامين والموضوعات في عروض مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة، ولهذا التعدد سببان رئيسان، الأول: يتبع مدى قدرة المنظمة أو المركز من حيث الملاءة المالية والدعم الحكومي وغير الحكومي، ومدى تطوره واتباعه أساليب حديثة في رعاية أصحاب الإعاقة، وخبرة كادره وعدد الاختصاصين منهم والمشرفين، ومدى وعي وقناعة إدارته بدور المسرح ووظيفته في تطوير قدرات أصحاب الإعاقة الجسدية والعقلية والنفسية، والسبب الثاني: يكمن في دور المشرفين على انتقاء نص مسرحي يتفهم حالة المشاركين من أصحاب الإعاقة وبما يتناسب مع نوع إعاقتهم: صمم- عمى- شلل دماغي- توحد- داون…الخ، ودراستها مع الأطباء الاختصاصيين والمرشدين والداعمين النفسيين من جهة، ومن جهة أخرى المهارة الإبداعية في خلق الصورة والمشهدية والحبكة الدرامية وانتقاء ألوان أزياء وديكور مدروسة نفسياً ودلالياً، ونوع الموسيقا التي تعزز الرؤية الدرامية وتثير الحالة الشعورية للاعبين على خشبة المسرح وللجمهور.
الجزء الثاني: مسرح الإعاقة في العالم العربي
وفي العالم العربي ثمة تجارب عديدة متنوعة ذات طيف واسع ومتنوع من الأعمال المسرحية التي قدمت على خشبات مسارح أقطارها، ففي الجزائر مثلاً قُدمت مسرحية “أنتيغون” التي أنتجها المسرح الوطني الجزائري وعُرضت بمناسبة اليوم الوطني لذوي الاحتياجات الخاصة، وهي من إخراج المخرج صادق الكبير، وكان قد أخرج قبلها مسرحيتين هما: “غرفة الأصدقاء”، و “الملك أوديب”، للمسرح الجهوي سيدي بلعباس.
وثمة “دراسة قام بها فريق من الباحثين في الإعلام وعلوم المسرح تحت إشراف الدكتور كمال الدين عيد، وهو مخرج ومبدع ومنظر أكاديمي، وأستاذ مناهج الإخراج المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون بمصر، حيث قام بدراسة حول “قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة في دراما المسرح الحديث”.
“كما اعتمد الكتاب المسرحيون بدرجة كبيرة على الأفراد ذوي الإعاقة الحركية في التعبير عن تلك القضايا حيث جاءت الإعاقة الحركية في الترتيب الأول بنسبة تفوق 53 بالمائة، بينما جاءت في الترتيب الثاني الإعاقة البصرية بنسبة 25 بالمائة، وفي الترتيب الثالث الإعاقات المتعددة بنسبة تقارب 22 بالمائة، واعتمد الكتاب على شخصيات ذوى الاحتياجات الخاصة لكي تلعب أدواراً رئيسية في دراما العصر الحديث، حيث جاءت الشخصية الرئيسية المعبرة عن شخصية المعوق في الترتيب الأول بنسبة 87 بالمائة، بينما جاءت في الترتيب الثاني الشخصية الثانوية بنسبة 12.5 بالمائة.
وأبرزت الدراسة أن أكثر السمات الإيجابية للشخصية المعبرة عن ذوي الإعاقات في النص المسرحي هي قوة الإرادة وجاءت بنسبة 35 بالمائة، يليها التوازن العاطفي والاعتماد على النفس بتكرار واحد بلغ 25 بالمائة، التقبل للآخرين بنسبة 10 بالمائة من إجمالي العينة، بينما كانت السمات السلبية للشخصية المعبرة عن تلك الفئة في النص المسرحي هي الاعتماد على الآخرين وظهرت بنسبة تقارب 27 بالمائة، يليها الانطواء والعزلة بنسبة 23 بالمائة ثم عدم تقبل الذات والاحتفاظ بمشاعر سلبية تجاه الآخرين بنسبة تقارب 17 بالمائة، وقد أوضحت النتائج أن أكثر أنواع الصراع الذي تواجه الشخصيات المعبرة عن الإعاقات هو الصراع بين الشخصية والتهديدات الخارجية، حيث جاء في الترتيب الأول بنسبة تقارب 59 بالمائة ثم الصراع بين الشخصية وذاتها بنسبة تفوق 27 بالمائة، بينما لم يهتم الكتاب المسرحيون بطرح حلول لمشكلات ذوي الاحتياجات الخاصة، بقدر اهتمامهم بعرض القضايا فقط وذلك بنسبة كبيرة بلغت 90 بالمائة، فيما لم يمثل طرح الحلول سوى 10 بالمائة فقط.” (2).
وفي مصر هناك جمعية الرواد التي تعد أول جمعية تهتم بتنمية المجتمع وقد أنشئت عام 1929 ولم تبدأ باعتماد المسرح كعلاج لذوي الاحتياجات الخاصة إلا عام 2008. ولعل أهم تجربة عربية في تقديم أعمال مسرحية لذوي الاحتياجات الخاصة هي تجربة المخرجة المصرية أميرة شوقي التي قامت بتأسيس تجمع «الفن حياة» والتي انبثق عنها مسرح ذوي الإعاقة وتشكيل “فرقة مسرح الشمس” وإنشاء فرقة الشكمجية.. وهي فرقة صنّفت كأفضل فرقة فنية لذوي الإعاقة على مستوى الشرق الأوسط إذ قدمت تسعة عروض مسرحية لذوي الاحتياجات الخاصة. ومن النشاط المميز المسرحي في مصر تلك المسرحيات التي قدمها المخرج شادي قطامش الذي أسس فرقة مسرحية جميع أعضائها من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعملون بشكل منظم ومستمر، كما أنه تجدر الإشارة إلى تجربة المخرج والمؤلف محمود عطية الذي أسس “فرقة ياسمين” وقدم 6 عروض مسرحية في 6 سنين متقطعة، بسبب ضعف الإمكانيات المادية والإهمال الفني والإعلامي لعروضه. كما تجدر الإشارة إلى بعض العروض المتفرقة والتي يقوم على تجسيدها فنانون أصحاء، لكنها تقدم خصيصاً لجمهور من ذوي الإعاقة. ونشير بشكل خاص إلى تجربة مسرحية مميزة في مصر، وهي تجربة المخرج ومدرب التنمية البشرية من خلال المسرح الأستاذ صبحي الحجار، الذي عمل في عروضه المسرحية على دمج مجموعة من المرضى النفسيين داخل المجتمع استهدفت دمج حوالي30 مريضاً، وقام بعمل ورش عمل لمدة ستة أشهر هدفت إلى دمج الممرضين وبعض طلبة مدارس التمريض بمستشفيات الصحة النفسية بمشفى العباسية في القاهرة وحلوان والاسكندرية، وداخل مستشفى العباسية استطاع دمج مجموعة من الأصحاء معهم وتواجد في التجربة بعض الدكاترة المشرفين علي هذه الحالات ليقوموا بشرح طبيعة المرض وطبيعة كل حالة، وفى ختام الفترة المحددة كان هؤلاء المرضى فعلا مندمجين داخل المجتمع وقاموا بتقديم عرض مسرحي تحت رعاية الأمانة العامة للطب النفسي وبتمويل من منظمة الصحة العالمية، وحضره ذووهم مع الجمهور، وساعدت هذه التجربة إلى عودتهم إلى المجتمع مرة أخرى.(3)
في الخليج العربي، لا يقتصر النشاط المسرحي لذوي الاحتياجات الخاصة على تقديم عروض متفرقة في دول مجلس التعاون الخليجي، بل ثمة نشاط هام أيضاً تدعمه الدولة وتعمل على إنجاحه، بإقامتها مهرجان مسرحي خاص لذوي الإعاقة، ففي الدورة الثانية من المهرجان المسرحي الخليجي لذوي الإعاقة في دول مجلس التعاون الخليجي، والذي أقيم في معهد الفنون بالشارقة، “سيدة تقف على يسار المسرح لتشرح بلغة الصم والبكم ما تسمعه وتراه من أحداث المسرحية للجمهور، وهي طريقة جديدة في التواصل مع أصحاب الإعاقة تتكرر يومياً في مهرجان المسرح الخليجي لذوي الإعاقة حيث يلتقي أهل الفن والإعلام لمتابعة الأعمال المسرحية تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً قريبة الصلة بما يحدث مع المحترفين. وأول عرض من عروض المهرجان كان عرض مسرحية “سلام جابر” من بطولة عدد من أصحاب الاحتياجات الخاصة، الذين تتراوح احتياجاتهم الخاصة بين حركية وسمعية وبصرية، وهو عمل يقوم على مجموعة من الأغاني والمواويل التراثية الخليجية التي كتبها علي الشرقاوي وفواز الشروقي وصالح كاظم محمد كاظم وأخرجه ولحّن أغانيه، البحريني عبد الرحمن بوجيري (4).
الجزء الثالث: مسرحية “وجهان” نموذجاً
لعل العمل المسرحي الأهم والمشغول من وإلى ذوي الاحتياجات الخاصة عربياً هو عرض: “وجهان”، نقول هو العرض الأهم لفرادته وتميزه في تقديم المحتوى والشكل والأداء، وهو عمل من إعداد السوري نجيب الحبال الذي أعده عن ثلاث حكايات عالمية، هي “ساندريلا” و “ليلى والذئب” و “بائعة الكبريت” وأخرجه بنفسه. يكمن إبداع نجيب الحبال في رؤيته الجديدة على مستوى النص- الحكاية، والحكايات الثلاث هي أشهر حكايات الأطفال في العالم قاطبة، وتلك الحكايات تحكي عن شخصيات خيّرة وأخرى شريرة، ومن المبرر حكائياً وسرداً ودرامياً، أن يكون الصراع بين تلك القوى، كما يحدث في الحياة ومنذ وجدت فوق البسيطة كما في حكاية قابيل القاتل وهابيل المقتول، وكما هو الحال في صراع الأفراد والدول والامبراطوريات عبر التاريخ وحتى أبد الآبدين، وطبيعي جداً أن تقدم هذه الحكايات للأطفال الأصحاء عبر وسائل تعبير وأجناس فنية وأدبية مختلفة كالقصة والمسرحية والسينما الروائية أو أفلام الكرتون أو مسرح العرائس أو خيال الظل، ضمن حبكة مشوقة تشد الطفل وتعرّفه على الأخيار والأشرار كأشخاص، أو كمنظومة قيم أخلاقية، لكن الحال هنا مختلف في عرض “وجهان “، وأدوات التعبير مختلفة، فالمسرح هنا هو مسرح لذوي الاحتياجات الخاصة ومنهم، لذلك كان لنجيب الحبال فكرته وروايته وتجسيده وبراعته في تحوير الحكايات ليكون لها وجه آخر، رؤية أخرى حلم آخر جميل، بريء ونقي وتلقائي وعفوي، عالم جديد لهذه الحكايات ينتفي فيها الشر والشخصيات الشريرة، ويكون الكل خيّر وطيب ونقي، تماماً كعوالم ونفوس وقلوب أصحاب الاحتياجات الخاصة، زد على أن التأليف الجديد لهذه النصوص يناسب تماماً طبياً ونفسياً من يجسد هذه النصوص، باعتبارهم من أطفال التوحد.
في حكاية سندريلا الأصلية، تقول الحكاية، أن فتاة هي سندريلا توفيت والدتها وهي صغيرة، ما دفع والدها للزواج من امرأة أخرى، وعاشت سندريلا في كنف والدها المشغول دائماً خارج المنزل، وخالتها الشريرة مع ابنتيها، يا للبؤس والشقاء الذي عانت منه سندريلا الجميلة من خالتها وابنتيها، فهي التي تقوم بأعمال المنزل من تنظيف وغيره، إضافة لمعاملة الخالة السيئة الظالمة الخالية من العاطفة. تصل رسالة من قصر الأمير مفادها أن الأمير قرر الزواج من أجمل فتاة في أمارته، وعلى جميع الفتيات في الأمارة الحضور إلى القصر ليختار الأمير عروسته، أرادت سندريلا أن تذهب مع خالتها وبناتها إلى الاحتفال في قصر الأمير لكن الخالة منعتها، بل كلفتها بتنظيف البيت والمطبخ وإطعام حيوانات الاسطبل وتنظيفه. تغادر الخالة مع ابنتيها القبيحتين إلى حفل الأمير، وتجلس سندريلا باكية حزينة وتتمنى موتها لتكون إلى جانب أمها الطيبة الودودة الحنونة في العالم الآخر، فجأة تظهر الساحرة، فترتعد سندريلا خوفاً، لكن الساحرة تطمئنها وتخبرها أنها جاءت لتلبي لها طلباً واحداً، فهي من الساحرات الخيّرات، فتسرد لها سندريلا ظلم الخالة وبناتها لها، ومنعها من الخروج إلى احتفال الأمير، وهنا وبسحر الساحرة يصير ثوب سندريلا الممزق والمتسخ فستاناً جميلاً يليق بأميرة، وحذاؤها القماشي العتيق يصير من زجاج يتلألأ، وتطلب منها الساحرة أن تخرج لتنال فرصة الزواج بأمير البلاد، لكن عليها أن تعود إلى منزلها عند الساعة الثانية عشرة ليلاً، وإلا سيعود لباسها وحذاؤها إلى ما كانا عليه، وتهييء لها الساحرة عربة بيضاء يجرها حصانان أبيضان.
تصل سندريلا قصر الأمير فتأخذ بألباب الحاضرين فتنة وجمالاً أخاذاً، وتلفت نظر الأمير الذي أدهشه جمالها الفتان، فيراقصها، وتكاد سندريلا أن تنسى موعد عودتها كما أمرتها الساحرة، فقد شغلها الأمير بحبه ووداده واهتمامه بها، وسرعان ما تفطن بتعليمات الساحرة، فتترك الأمير فجأة وتركض مسرعة، يلحق بها الأمير الذي شغفته حباً ورغبة، وعلى الدرج تنخلع من رجلها فردة حذائها فتتركها خشية أن ينكشف أمرها. في اليوم الثاني يأمر الأمير رجاله أن يزورا بيوت أمارته ومعهم فردة حذاء سندريلا، وأن يحضروا الفتاة التي تكون فردة الحذاء الزجاجي على قياس رجلها، وفعلاً بعد أيام يحضر رجال الأمير إلى بيت سندريلا، ويحملونها إلى قصر الأمير لتكون زوجة له، بينما تستشيط خالتها وابنتاها غضباً حقداً.
تلك حكاية سندريلا كما نعرفها والتي كتبتها في الأصل الكاتبة الإنجليزية “ديزي فيشر”، والتي نشرت عام 1966، وترجمت إلى معظم لغات العالم. فما الذي فعله نجيب الحبال بذاك النص، وكيف قدمه على خشبات مسارح دمشق وحمص وحماة واللاذقية في سورية؟. لقد جعل من الخالة زوجة الأب امرأة بغاية النبل والعطاء والحب، فلقد قررت أن يذهب الجميع إلى حفلة الأمير، لكنها تكتشف أنهن لا يملكن سوى ثلاث فساتين وليس باستطاعتهن شراء فستان رابع لفقرهنَّ، فالنساء الأربع من عائلة فقيرة، فتجلس حزينة تندب، وتبكي ضياع فرصة أن يتزوج الأمير إحدى بناتها أو سندريلا، وهنا تحضر الساحرة، وتمنحهن الفستان الرابع وتهديهن عربة فاخرة بجياد من عاج، يركبنها فرحات ضاحكات، وفي الحفلة يُعجب الأمير بسندريلا، ويطلب يدها من خالتها التي يحسبها والدتها الحقيقية فتوافق ودموع الفرح تنبجس من عينيها وتضم سندريلاً وتبارك لها هذا الحب وزواجها من الأمير. لقد أبان الحبال في نصه وعرضه عن الوجه الآخر للحكاية، وقدم السحر كعمل إنساني نبيل وخيّر كعالم ذوي الاحتياجات الخاصة، إنه عالم الحب والنقاء، وجعل من الخالة زوجة الأب امرأة بغاية النبل والعطاء والحب، فهي التي ألبست سندريلا أجمل الثياب ومشطت شعرها، وعطرتها، تماماً كما فعلت لبناتها، وتعاملت مع سندريلا كما تتعامل مع ابنتيها، بل بأفضل من تعاملها وسلوكها الأمومي مع ابنتيها، فسندريلا يتيمة وأرادت أن تمنحها الحب والحنان، وأن تعوضها ما فقدته برحيل أمها.
أما “بائعة الكبريت” فهي قصة قصيرة من تأليف الأديب والشاعر الدنماركي هانس كرستيان أندرسن، وكان الإصدار الأول لهذه القصة عام 1845م، وقد تحولت هذه القصة لكثير من الأفلام، والرسوم المتحركة، ولاقت إعجاباً كبيراً من الناس لأنها لامست شعور التعاطف مع طفلة صغيرة انتهت حياتها في ظروفٍ صعبة، وماتت في الشارع تحت وطأة البرد والجوع. في حكاية بائعة الكبريت، يتدخل نجيب الحبال فيغير الحكاية، فبدلاً من أن تموت بائعة الكبريت على الرصيف برداً وجوعاً ليلة عيد الميلاد، وتشعل أعواد كبريتها وتحلم بعالم آخر، عالم بلا جوع وبرد وفقر، نرى البائعة تغفو على الرصيف بعد أن فقدت الأمل ببيع علب الكبريت بحوزتها، لتعود بالمال إلى أسرتها الجائعة، ثم يأتي رجل نبيل يأخذها إلى بيته فيطعمها ويكسوها بأجمل الثياب، وفي مشهد يليه نرى بائعة الكبريت تذهب إلى الأحياء الفقيرة فتساعد الأطفال المشردين كما ساعدها الرجل الطيب النبيل.
حكاية ليلى والذئب أو ذات الرداء الأحمر واحدةً من أكثر قصص الأطفال انتشاراً بين شعوب الأرض، وهي من تأليف الفرنسي شارل بيرو، وثمة روايات متعدّدة من هذه الحكاية تختلف قليلاً جداً عن بعضها البعض. في حكاية ليلى والذئب، وفي عرض “وجهان” نرى الذئب خيّراً ولطيفاً ومحباً لليلى وجدتها، فهو يدل ليلى على أن تسلك الطريق الطويل في الغابة للوصول إلى بيت جدتها، تماماً كما في الحكاية الأصلية، لكن في حكاية “وجهان” دافع الذئب في توجيه ليلى للطريق الطويل مختلف فهو هنا يحبها، ويسبقها إلى بيت جدتها بمسيره في الطريق القصير لأنه علم أن دباً شرساً وشريراً يريد أن يسطو على سلة ليلى، وهو ينتظرها في بيت جدتها، وفعلاً يصل الذئب الطيب بيت الجدة، فيراها مقيدة اليدين والقدمين من قبل الدب، فيفك وثاقها وتصل ليلى فتفرح جدتها ويحضر الصياد الذي يعلن أنه طرد الدب نهائياً من المنطقة
في عرض “وجهان” يُقسم المسرح إلى قسمين متساويين، في كل قسم تُروى وتُجسد الحكايات الثلاث، الحكاية الأصلية في القسم الأول، ثم نتابع الحكاية من وجهة نظر أخرى في القسم الثاني. والرائع أن الممثلين جميعهم هم الأطفال المتوحدين، وقد أدوا أدوارهم بشكل لافت.
إن عرض مسرحية “وجهان” لنجيب الحبال، عرض متميز، ومن أهم الأعمال المسرحية في مسرح ذوي الإعاقة في الوطن العربي، ويكفي أن نذكر هنا بعض العروض المسرحية العربية، ونتأمل محتوى هذه النصوص وطرق معالجتها درامياً وجمالياً ومدى نجاحها في انتمائها لمسرح ذوي الاحتياجات الخاصة بهدف أن يكون المسرح علاجاً حقيقياً لأصحاب الإعاقة عبر وسيلتين اثنتين هما: المتعة والفائدة. فمثلاً قُدمت حكاية سندريلا في فلسطين بعرض مسرحي لأصحاب الاحتياجات الخاصة، بعنوان “سندريلا مقعدة” – لنتخيل فداحة عنوان العرض على الأقل- قدمتها فرقة القصبة في أواخر عام 2005، ومن الواضح لوي عنق النص الأصلي بشكل فج، لحث ذوي الاحتياجات الخاصة على تنفيذ طموحهم لأن يكونوا فاعلين كما هم الأصحاء من الناس، ويأخذوا فرصهم في الحياة ككل الناس، وهذا إسقاط أقرب إلى السذاجة في معالجة الهدف النبيل. ومن الغرابة بمكان أن يكون مضمون العرض السعودي في المهرجان المسرحي الخليجي الثاني لذوي الاحتياجات الخاصة المقام في الشارقة كما أسلفنا، هو مجرد حكاية عن شعائر الحج إلى بيت الله الحرام في مكة. ويحق لنا أن نسأل ما الفائدة من تقديم مسرحية شكسبير “حلم ليلة صيف” في باكو عاصمة أذربيجان في أيلول عام 2017؟ ماذا تقدم التراجيديات الشكسبيرية لممثليها من المعوقين على خشبة المسرح، ولجمهورها أيضاً؟ ، أية عوالم جديدة تنفتح أمام الممثلين والنظارة؟ أية مرتكزات نفسية تجاوزية تفتح أفقا ً جديداً؟ خصوصاً أن لغة شكسبير صعبة وعميقة ومواربة في حبكاته المسرحية المتينة، وشخصياته التراجيدية تحتمل تأويلات متعددة. هل يكفي أن يجسد ذوو الاحتياجات الخاصة عملاً عالمياً، ليثبتوا فعاليتهم وحضورهم الاجتماعي والإبداعي؟.
إنَّ مسرح ذوي الإعاقة، يخضع للنشاط الذاتي الشخصي، سواء من قبل بعض مديري المراكز والجمعيات التي تُعنى برعاية ومعالجة ذوي الاحتياجات الخاصة أو تبعاً لنشاط ورغبة الفنان المسرحي الذي تدفعه إنسانيته ويقظة ضميره، أو رغبته في تجريب هذا النوع من المسرح، وبالتالي فإنَّ نشاط وفعاليات هذا المسرح، إما أن تخبو بعد تجربة أو أكثر لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، أو تكون متقطعة بحيث يقدم عمل مسرحي واحد كل ثلاث أو أربع سنوات. والغلبة الغالبة من المراكز والجمعيات الخيرية المعنية برعاية أصحاب الإعاقة، وعلى تنوع هذه الإعاقات، لا تهتم لهذا النشاط المسرحي الهام، لقصور في فهمها لوظيفة المسرح أو لضعف إمكانياتها المادية.
إنَّ الطفل أو البالغ، الممثل في مسرح من ذوي الاحتياجات الخاصة لا يمثل، بل يسمو فوق عاهته، ويتحدى إعاقته ويؤدي عملاً “ثورياً” في سبيل التغيير، تغيير نظرة المجتمع أو البعض الكثير من هذا المجتمع، ليثبت ببرهان المسرح وعرفانه، أنه كائن اجتماعي كالبقية، وأن لديه قدرات إبداعية لا يملكها الأسوياء. إنَّ الممثل من ذوي الاحتياجات الخاصة، بصعوده وأدائه على خشبة المسرح، يرسم منهجاً خاصاً في تجسيد الشخصية المسرحية، منهجاً يضاف إلى مناهج ستانيسلافسكي وبريشت وميرخولد، وعلى الممثلين المحترفين في مسارح العالم أن يتعلموا الآلية الخاصة لدى المعوق في تجسيد دوره المسرحي، فالممثل في مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة، هو البطل ذاته، وليس الآخر الذي رسمه مؤلف النص على الورق، هو البطل الذي يجسد بطولته، لا الممثل الذي يجسد بطولة شخص آخر. إنَّ غاية المسرح كما يقول أرسطو هي التطهير، فالمؤدي في المسرح الإغريقي يهدف إلى تطهير المشاهد، بينما في مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة يسعى الممثل لتطهير ذاته، فالممثل هو الذي يتطهر، يتخلص من خوفه، من صعوبة تواصله مع الآخرين، ومن قنوطه واستسلامه لعجزه من الطبيعة التي جعلته مختلفاً عن البشر الأسوياء، وهو بتطهره لذاته يطهر المشاهدين من دنس سلوكهم المشين، من نظرة الدونية إلى المعوق ، يخلصهم من الشفقة، وهنا يلعب الممثل في مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة دور الفادي المخلص، هو كما شعائر المسرح عند الإغريق، هو الإله ديونيسوس والمشاهد هو الذبيحة التي يحل فيها ديونيسوس.
المصادر:
(1) دراسة تحليلية بعنوان “استخدام أسلوب التدريس الممسرح في مسابقات مدارس التربية الفكرية بمصر” – إعداد د. أمينة محسن حسن الأكشر- جامعة بنها- مجلة كلية التربية ببنها- العدد 127- يوليو ج3- 2021.
(2) مقال “مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة تحت مجهر الباحثين” لأسامة إفراح في جريدة الشعب الجزائرية بتاريخ 22/3/2023.
(3) من مقال ” مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة في الميزان” لأحمد محمد الشريف- جريدة مسرحنا المصرية- العدد 646- 13 يناير 2020.
(4) من مقال “خشبة المسرح تتألق بإبداعات ذوي الاحتياجات الخاصة” بقلم باسل أبو حمدة- مجلة الشارقة- 1 نوفمبر 2011