الإرادة

80 طالباً يحظون بفرصة التعليم في معهد تأهيل المكفوفين بحلب.. البقية بضعة آلاف ينتظرون شمعة لتلعن الظلام!

حلب- رحاب الإبراهيم

تشارك هيفاء عدواني “16 عاماً” بطلة القراءة على مستوى سورية عن فئة ذوي الإعاقة في تحدي القراءة العربي المقام هذا الشهر في دبي، مدفوعة بحبها للمنافسة وتحدي نفسها كما تقول لموقع “إرادة” والضحكة لا تفارق وجهها عند لقائها في معهد التربية الخاصة لتأهيل المكفوفين بحلب: كوني مكفوفة لا يعني بقائي في البيت، فأنا أريد أن أتعلم رغم الصعوبات كعدم توافر الكتب الصوتية، لكن تجازوت ذلك بدعم أهلي”.

عدواني، أصيبت بالعمى بفعل عامل وراثي، فأخوها وأبوها الذي يدرس في المعهد من ذوي الإعاقة البصرية أيضاً. الفتاة المتقدة بقوة الحياة ترغب أن تصبح شاعرة وكاتبة في المستقبل. الخطوة الأولى كما تقول كانت تعلمها طريقة برايل الخاصة بالمكفوفين في المعهد، وهو ما ساعدها أيضاً على الاندماج في المجتمع.

وبذات النبرة التي تميز عمر الشباب، تتحدث صبا شاوي “20 عاماً” التي فقدت بصرها كلياً منذ ثلاث سنوات فقط كما تم استئصال عينها الأخرى، فتقول: قدمت إلى المعهد لمتابعة تعليمي وتعلم لغة برايل، وأشعر بتحسن أكبر منذ القدوم إلى المعهد، لأنه أعطاني القوة وأحبت الدارسة فيه أكثر من مدرسة المبصرين”.

شاوي التي استثنيت من شرط العمر كون معهد الإعاقة البصرية يقبل الطلبة من 5 سنوات حتى سن الـ18 عاماً تبرع في صناعة أشكال يدوية على هيئة الورد الجوري، الذي تحبها وتذكر مشاهدتها نماذج عن هذه الأشغال حينما كانت مبصرة. لدى صبا أمل بأن يعود البصر لعينها الأخرى كما قال لها الأطباء ولكن ذلك يتوقف على العلاج والعملية المناسبة التي لا تتوفر في سورية اليوم.

أما أميرة فلاحة التي تستعد لامتحانات شهادة الثانوية العامة فهي ترغب بتحقيق طموحها في دراسة العلوم السياسية أو الترجمة أو الحقوق. أميرة متفوقة بدراستها وكانت قد التحقت بروضة خاصة بذوي الإعاقة البصرية، ثم انتقلت إلى المعهد عام 2014 وتعلمت لغة برايل، التي ساعدتها كثيراً في تعليمها وحياتها الاجتماعية.

وتروي صديقتها حبيبة مقرش “أول ثانوي” كيف كانت سابقاً في مدرسة نظامية لكنها تعرضت لحادث أفقدها بصرها، واضطرت بسبب ظروف الحرب بحلب للانتقال إلى دمشق والالتحاق بالمعهد الخاص بالمكفوفين، لتعود وتلتحق بالمعهد بحلب عام 2017.

ويخرج علي زين العابدين، العائد من لبنان بعد تهجير استمر لسنوات، عن سرب أمنيات زميلاته بتأكيد أنه يرغب أن يصبح مبرمجاً كونه يحب هذا الاختصاص ويبرع فيه، خاصة أن بإمكانه الرؤية جزئياً

تعود حركة العمل الاجتماعية لرعاية ذوي الإعاقة البصرية في سورية إلى الخمسينيات من القرن الماضي، عندما تأسست جمعية أهلية لرعايتهم كان من أبرز اعضائها عدنان الركابي الذي كان يحمل إعاقة مزدوجة (كف بصري وصمم جزئي) وكان سابقاً لعصره فلم يهتم بالجانب الخيري فقط بل وسع نشاطات الجمعية إلى الجانب الثقافي والتعليمي إضافة إلى الجانب المهني لذوي الإعاقة البصرية خاصة التامة (المكفوفين) وشمل تأهيلهم (صناعات يدوية، صناعات النسيج، السجاد اليدوي، الخيزران، القش). وعمل بهذه الصناعات عدد كبير من المكفوفين حتى مطلع السبعينيات حيث كان للدخول الواسع للآلة إلى جانب حركة التأميم أثر كبير في خروج هؤلاء من دائرة العمل المنظم. النقلة الكبيرة حدثت مع قرار نقل هذه الفعالية المدنية إلى عاتق الدولة حيث تم تأسيس مؤسستين لتأهيل المكفوفين في دمشق وحلب.

كادر مؤهل

اندماج الطلبة المكفوفين في معهد التربية الخاصة لتأهيل المكفوفين يرجعه مدير المعهد الدكتور عبد الرحمن الخالد، إلى وجود كادر متكامل ومؤهل من كافة الاختصاصات وخاصة أن غالبيتهم من المكفوفين، فمنهم طلاب كانوا سابقاً في المعهد وحصلوا على إجازات جامعية وماجستير في اختصاصاتهم وعادوا ليدرسوا في المعهد، مبيناً أن الكادر التدريسي يبلغ 35 معلماً 27 منهم من المكفوفين، الذين أنهوا تعليمهم الجامعي أو متطوعين، كنجوى محمد الكم “سنة ثانية تاريخ” التي تؤكد أنها تدرس طلاب التعليم الأساسي كمتطوعة رغبة منها في منحهم بعض المهارات والخبرات التي اكتسبتها في المعهد كنوع من رد الجميل.

بينما تؤكد المعلمة غراء بركات “45 عاماً” أنها عادت إلى المعهد بعد إتمام دراستها في قسم الفلسفة، فالتدريس يساعدها على الاندماج في المجتمع ويقوي شخصيتها ويشعرها بأنها منتجة وقادرة على إدارة شؤون حياتها.

همة عالية
في هذا المكان، لا فرق بين في الكادر التدريسي بين ذوي الإعاقة وغيرهم فالجميع يعمل ضمن نفس الظروف ونفس الأهداف، وهو ما تؤكده معلمة الرياضيات مها مسلب، التي طلبت توظيفها بالمعهد لأنها تحب التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم يعطونها طاقة إيجابية لا تجدها في أي مكان حسب ما تقول.

ويتعاون المعلمون من الجانبين معاً لتحويل منهاج التربية الدراسي إلى لغة برايل عبر كتابته على ملف ورد وتدقيق من موظفة كفيفة ومبصرة ثم طباعته بواسطة طباعة صغيرة، حيث يبذلون جهداً كبيراً “غير ملزم” لتمكين الطلبة من التعليم كونه يفترض على الوزارات المعنية تأمين المنهاج بما يناسب وضع الطلبة المكفوفين، وهو أمر غير متوفر دائماً حيث يعاني المعهد من نقص الكتب المطبوعة بلغة برايل. وهنا يطالب مدير المعهد بتأمين طابعة بحجم أكبر للإسراع في طباعة المنهاج، مع ضرورة تزويد المعهد بوسائل ومعينات لمساعدة الأطفال المكفوفين على إكمال تعليمهم.

تقدر مصادر حكومية عدد ذوي الإعاقة البصرية الكاملة ي سوريا بـ 50 الف مكفوف، خمسهم من الأطفال لكن لا يوجد سوى مؤسستين تعليميتين رسميتين لدمجهم وتقديم فرصة التعليم لهم، وهي معهد تأهيل المكفوفين بدمشق ومعهد تأهيل المكفوفين بحلب

عدد قليل.. وأسباب عديدة
“إرادة” أمضى يوماً كاملاً مع الطلبة في معهد التربية الخاصة لتأهيل المكفوفين خلال الدوام الرسمي، حيث لاحظنا أن المعهد قادر على استيعاب عدد أكبر من الطلبة الملتحقين فيه والمقدر عددهم بـ80 طالباً فقط، ففي بعض الصفوف يكون فيها طالبان فقط وصفوف أخرى عشرة طلاب أو أقل، نتيجة العدد القليل المسجل في المعهد، وهنا يؤكد الدكتور عبد الرحمن الخالد استقبال كل طالب يرغب بالانتساب للمعهد ممن لديهم كفف كامل، مع قبول أطفال مبصرين لكن نتيجة حوادث معينة أصيبوا بالعمى، بالمقابل يرفض استقبال الطلبة ذوي الإعاقات المتعددة.

وعن عدد الطلاب القليل وأسباب عدم استقبال عدد أكبر يؤكد د.الخالد أن ظروف الحرب الصعبة أثرت على المعهد، وخاصة بعد انتقاله من مركزه الرئيسي في منطقة السبيل، فسابقاً كان هناك مبيت داخلي يشجع الأهالي وخاصة في الأرياف على تسجيل أطفالهم في المعهد المقتصر حالياً على أبناء المدينة بسبب هذا الوضع وضعف الإمكانات التي لا تتيح تأمين وسائل نقل كافية لنقل طلاب الأرياف المحرومين من التعليم إلا المقتدرين مادياً كونهم قادرين على إيصال أولادهم من البيت إلى المعهد والعكس، علماً أن بعض العائلات في المدينة رغم أحوالها المادية الجيدة لا تفضل إرسال أولادها إلى المعهد لاعتبارات اجتماعية، مناشداً الأهالي بضرورة تعليم أطفالهم المكفوفين وخاصة أن المعهد يقدم خدماته مجاناً مع تقديم مزايا عديدة للطلبة، الذين يتولى رعايتهم معلمون وإداريون يمتلكون خبرة كبيرة في التعامل مع المكفوفين، مع وجود مرشدة نفسية ومراقبين، كما أن المعهد يتابع أوضاع الطلبة أثناء العطلة الانتصافية عبر تنظيم إقامة دورات تقوية للطلاب الشهادات وقيادة الحاسوب، مع متابعتهم أيضاً عند انتهاء العام الدراسي لمنع حصول أي تسرب دراسي، حيث يعمل على إقناعهم بالعودة من خلال لقائهم بزملائهم المتفوقين، مدللاً على اهتمام المعهد بطلابه نجاح جميع الطلبة في الشهادتين الإعدادية والثانوية وعدم وجود حالة رسوب واحدة.

تتفق معه الموجهة ريما عمراية التي تعمل في المعهد منذ 1988، حيث تؤكد على ضرورة دعم المعهد مالياً ولوجستياً عبر تزويده باحتياجاته من المحروقات وتأمين عدد أكبر من الباصات لنقل الطلبة، مع ضرورة تأمين المبيت الداخلي للطلبة سواء في المعهد الحالي أو الانتقال إلى مكان آخر أكبر، على نحو يتيح استقبال عدد أكبر من الطلبة والعودة إلى تنظيم أنشطة مهنية كالسابق بغية تعلم الطلبة المكفوفين حرف يدوية تسهم بتأمين سبل العيش الكريم.

وتؤكد الموجهة عمراية على نقطة مهمة تتمثل بأن أغلبية الطلبة المصابين بالعمى مرده إلى عامل وراثي بسبب زواج الأقارب، ما يتطلب نشر التوعية لتقليل معدل إصابة الأطفال بالعمى.

حق التعليم
عدد الطلاب المحدود في معهد تأهيل المكفوفين يطرح تساؤلات حول عدد الأشخاص المكفوفين بمدينة حلب، وهنا تؤكد رئيسة اللجنة المعنية بمنح بطاقة إعاقة بصرية نسرين صوا أن عدد المكفوفين الذين حصول على بطاقة إعاقة بصرية من عام 2005 حتى عام 2023 بلغوا 5103 شخصاً لكن العدد انخفض بموجب التصنيف الوطني الجديد للإعاقة إلى 1104 أشخاص مكفوفين من عام 2017 إلى 2023، مرجعة الانخفاض إلى عوامل عديدة منها الوفاة أو النزوح أو الهجرة.

لكن رئيس جمعية حماية المكفوفين أحمد كاتبة بين أن العدد التقريبي للمكفوفين بحلب يقارب 8 آلاف شخص، حيث هاجر ونزح عدد كبير في بداية الحرب، كما أن بعض الأهالي لا يفصحون عن أبناءهم المكفوفين كنوع من الخجل الاجتماعي، ما يحرمهم من حقهم في التعليم.

وأشار كاتبة إلى أن الجمعية تحاول حماية المكفوفين بعدة طرق منعاً لتوجههم نحو التسول، الذي ازداد مؤخراً، لذا تتعاون الجمعية مع الجهات الحكومية والمنظمات والجمعيات المحلية والدولية لمساعدة أكبر عدد ممكن من المكفوفين عبر تأمين فرص عمل محترمة وسبل العيش الكريم والمساهمة باستيعاب كافة الأطفال المكفوفين في معهد التربية الخاصة لتأهيل المكفوفين وخاصة في الأرياف التي تضم النسبة الأكبر.