منصة إرادة
اتصلت بصديقتي كي أبارك لها بانتصار الثورة، كانت تبكي وبينما ظننت للوهلة الأولى أنها دموع الفرح، عرفت فيما بعد أنها في عزاء اثنين من أولاد عمها الذين قررت العائلة إقامة مجلس عزاء لهما بعد أن أيقنت موتهما في أحد زنزانات السجون التي تمددت تحت أرض سوريا كشبكة عنكبوت تفترس ضحيتها.
مع مئات وربما آلاف الاحتفالات التي عمت ساحات وشوارع المدن السورية في العشرين يوماً السابقة، بقيت الغصة عالقة في الحلوق وربما ستبقى لعقود قادمة، تذكرة بالثمن الرهيب الذي دفعه السوريون، ثمن لا يمكن وزنه إلا بأرواح الذين بنوا لهذه البلاد جسراً للانعتاق.
قالت لي صديقتي أنها تؤجل الفرح قليلاً لتنتهي من أحزانها. تساءلت إن كان كل هذا الحزن سينتهي فعلاً، وتذكرت خالد خليفة في واحد من آخر مقالاته عندما كتب أن سوريا تعيش على طبقات غير مرئية من الحزن اللامتناهي. ربما يكون هذا أحد الأسباب التي دفعت مجموعة من الفنانين والمثقفين إلى دعوة السوريين للحداد العام وتذكر الضحايا والشهداء والتعبير الجماعي عن حزنهم المشترك عبر مجالس عزاء جماعي بدأت هذا الأسبوع في درعا، جبلة ودمشق وربما ستستمر في أسابيع قادمة.
مجلس عزاء كبير على امتداد سوريا
خلال الأسابيع الثلاث السابقة، تجاورت مظاهرات النصر مع مجالس العزاء، فرحة خروج المعتقلين مع أوجاع من لم يجدوا أبناءهم أو أخواتهم، عودة المهجرين إلى بيوتهم مع صور لا تنته لما تم تدميره، أبواب السجون التي انكسرت، مع الجدران التي تحمل بصمات ودماء من كانوا هنا. إرث ثقيل من الدماء والدمار والذنوب.
تشرح الأخصائية النفسية رفيف الساجر أهمية الشفاء الجماعي والحاجة إلى تسكين الآلام وتخفيف حدة الصدمة في المجتمع من كم الحقائق المرعبة الذي يتكشف كل يوم، والذي سيترك كثير من الجروح في الضمير الجمعي، بعضها من ألم الفقدان وبعضها بسبب الشعور بالذنب وتدعو إلى أن نقوم إلى جانب “وقفات النصر” بـ “وقفات الأحزان”، وتقترح أن يقوم كل شخص يشعر أن لديه رغبة أن يقول الله يرحمو والله يصبركم لأحد ما أن يأتي ويشعل شمعة أو يقرأ قصيدة أو يكتب كلمة منه بشكل شخصي إلى عائلة أحد الضحايا، كي نلملم الجراح الفردية عبر التعاضد الجماعي حتى لو بقيت هذه الذكرى مؤلمة. وتضيف أن المشاركة الصادقة والعميقة قد تستطيع تسكين آلام أسر الضحايا أكثر من التداول بصورهم وقصصهم وتحويلها لتريندات.
إقرار علنيّ من المجتمع
هناك مئات الألوف من السوريين الذين قتلوا في هذا الصراع الذي استمر ثلاثة عشر عاماً. لكل ضحية مقتولة، هناك أقارب وأصدقاء ينجون ويحزنون على هؤلاء الضحايا. ويتأثر هؤلاء الناجون بهذه التجارب المؤلمة لبقية حياتهم، وقد تبقى جروحهم مفتوحة ومؤلمة ما لم يتدخل المجتمع لتضميدها. وفيما يقع أحد العوامل المهمة للشفاء الجماعي على عاتق الحكومة والقانون عبر تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم والكشف عن الحقائق ومصير المفقودين وتعويضهم، فإن الجانب الثاني يقع على عاتق المجتمع ومؤسساته الأهلية والمدنية عبر التعاضد مع عائلات الضحايا ومشاركتهم آلامهم، والإقرار العلني بحجم تضحيتهم، وآلامهم، وخساراتهم.
في دراسته عن أقارب الضحايا في سوريا وجد إنريكي أكوستا، المؤلف المشارك والباحث في مركز دراسات الحرب أن واحد من كل عشرين شخص في سوريا فقد أحد أقاربه ويضيف “هذا له آثار سلبية كبيرة على الصحة العقلية والجسدية للناجين، ويقلل من الدعم العاطفي والاقتصادي المتاح خلال مراحل الحياة الحرجة، ويعزز التمسك بالإيديولوجيات المتطرفة التي تعوق المصالحة الاجتماعية والسياسية”.
مع الخلاص من حقبة مظلمة، أطلق السوريون الهتافات والزغاريد، ولكنها ممتزجة بالدموع وبحزن عميق على من فقدوهم؛ ما زال هناك آلاف العائلات التي ما زالت تبحث عن أحبائها فيما آلاف العائلات تيقنت من موت أبنائها وبدأت رحلة جديدة بالبحث عن رفاتهم، في حين أن آلاف غيرهم تستطيع أن تعلن اليوم “بفخر وبألم” مقتل أبنائها المتوفين منذ سنوات وتقيم لهم عزاءً يليق بهم.
دعوة لأن نعزي بعضنا بعضاً
انضمت كثير من الجهات والتجمعات المدنية والثقافية لدعوة للحداد العام في سوريا اليوم الجمعة 27 كانون الأول/ديسمبر 2024، ليكون يوم عزاء وطني، حيث سيتجمع السوريون في الساحات الرئيسية في المدن السورية و وكذلك في عواصم الشتات السوري، حيث من المقرر اصطحاب صور الشهداء والمفقودين من أجل رفعها والمطالبة بالمحاسبة العادلة من أجل السلام “إكراماً لذكرى شهداء الثورة السورية الذين قدموا أرواحهم في سبيل سوريا الحرة، وتقديراً لصمود ذويهم في وجه الظلم والقهر. إكراماً لأمهات وآباء فقدوا أولادهم في سبيل حريتنا. إكراماً لأبناء تيتموا لأجل كرامتنا. إكراماً لأخوة وأخوات خسروا إخوتهم وأخواتهن” حسب بيان الدعوة للحداد العام الذي أضاف أنه سيكون “يوم نطبّب فيه جراحنا، ونعزي بعضنا بعضاً بأهلنا الراحلين، ونؤسس لطريق العدالة لجميع السوريين. نحيي ذكرى شهدائنا، بالحفاظ على حريتنا وكرامتنا التي ضحوا لأجلها، نفرح معهم بالنصر، ونسعى لأجل حقهم وحقنا في القصاص من المجرمين، لأجل بناء سوريا حرة”.
وقد تم إلغاء وقفة الحداد في ساحة الأمويين بسبب التضارب مع مظاهرات احتفالية كانت مقررة في الأمويين وما سماه الفنان فارس الحلو، أحد الداعين إلى وقفة الحداد العام “الفوضى والارتبارك بسبب الأحداث في اليومين الماضيين”. فيما شهدت ساحة الحجاز وقفة من أجل المعتقلين شارك بها عدد من الفنانين، وكان مجلس عزاء عام قد بدأ في درعا في الجامع العمري، كذلك أقامت نساء جبلة مجلس عزاء عام وسيكون هناك وقفات شموع في اليومين القادمين في جرمانا ومزة جبل وباب توما وغيرها.. هي دعوات لنذكر الذين رحلوا واللواتي رحلن فداء لسوريا، لنعزّي أمهات سوريا ونعزّي بعضنا بعض.