خليل سرحيل
تتواصل معي رهف عبر برنامج الواتساب. تمازحني، فلا تكتب رسالتها هذه المرة، ترسلها كمقاطع مصورة، وهي تتكلم بلغة الإشارة. أحاول ترجمة كلامها بقدر استطاعتي، وأفهم أن تخرجها من كلية الفنون بات قريباً. تكتب لي لتدعوني للحضور والتصوير في مشروع تخرجها بعنوان (صمت). لم يكن هذا الاختيار مفاجئاً، فبالتأكيد رهف تعرف الصمت أكثر منا نحن من نملك السمع.
هللت لها وبدأت أسجل الموعد والتاريخ والمكان “كلية الفنون الجميلة في جامعة تشرين في اللاذقية”، وهنا بدأت أشعر بثقل الكلمة وخصوصاً في كيفية وصولي إلى الجامعة والكلية والقاعة.
تعلمت مع إعاقتي التخطيط للرحلة حتى لا أدخل في تجارب جانبية، غالباً ما تكون محبطة، فأنا من ذوي الإعاقة الحركية، وأشدّ ما أكره هو أن أزف محمولاً على الأدراج كعريس لا يعرف من هي زوجته، وأنا لست نصار أبن عريبي في المسلسل الشامي المشهور ولا أسعى لأن أكون.
لم أكن أعلم أن خطتي البسيطة للوصول بسلاسة تحولت لأن تكون فك شيفرة لواقع الإعاقة في الجامعات الحكومية، والذي تشكل حياتي جزءاً منه بكل فخر.
أعطتني رهف رقم عميد الكلية المسؤول عنها ليساعدني ويوجهني إلى الطريق، والحقيقة لولا هذا العميد لم تكن رهف لتستمر في كلية الفنون وتتخرج منها. فقد كان يعلمها الرسم ويوجه المدرسين لكيفية تعليمها وهو أمر لا يقدمه جميع المدرسين للصم.
في يوم التخرج، وقفت أمام مدخل جامعة تشرين أفكر أني لا أستطيع قطع كل تلك المسافة للوصول الى مبنى كلية الفنون الجميلة. اتصلت بالعميد كي يطلب من حارس البوابة السماح للسيارة التي تقلني بالمرور. تساءلت بيني وبين نفسي عن عدد الطلاب من ذوي الإعاقة ومن بينهم صديقتي رهف في جامعة تشرين، أين هم وماذا يفعلون وهل يملكون ترف أن يتصلوا بأحد فيفتح لهم البوابات المغلقة؟
في سورية اليوم ثماني جامعات حكومية بجدران ضخمة وطوابق عالية وبناء قديم. ربما عندما بنيت هذه الجامعات لم يكن مصطلح الدمج بالتعليم وحق الوصول للجامعات قد ظهر في ثقافتنا بعد، وهكذا بقيت الجامعات مكاناً مغلقاً، موحشاً وبعيداً، في أذهان ذوي الإعاقة. فلم تبن أي جامعة مع مراعاة اجتياحاتهم كجزء ومكون ضروري منها كما من المجتمع. لقد سقط ذوو الإعاقة من مخططات الجامعات، فسقطت الجامعات تلقائياً من أحلام ذوي الإعاقة.
يقول قانون التعليم بإتاحة التعليم للجميع وتأمين الوصول للجميع أيضاً وإذا ما قارنا بين القانون الخلاب والواقع نرى انعدام الدمج واقتصاره على إعاقات محددة دون أخرى.
سبب عامل الوصول بالإضافة لقانون الأهلية ومزاولة المهنة عقبة لازالت مستمرة حتى اليوم لم ينظر لها المجتمع أو يعمل على حلها ولم تساعد القوانين وتطبيقاتها بتأمين الوصول والاستقلالية من غير مساعدة.
أمام المصعد الوحيد في الكلية، أقرأ عبارة أن المصعد مخصص فقط للهيئة التدريسية وليس للطلاب وأفكر في نصار أبن عريبي الذي سأتحول إليه مجبراً إن تم رفعي على الأكتاف.
ذهبت الى أقرب موظف وعندما أخبرته أني أريد المساعدة لم يسأل عن نوع المساعدة لكنه قال لي بأنه يعاني من الديسك.
عدت الى المصعد وتذكرت أني أملك الرقم الذهبي، رقم عميد الكلية، اتصلت به مجدداً، وساعدني فوراً وأرسل لي الفني المسؤول عن المصعد المقفول بالمفتاح.
سألني الفني عن موعد عودتي كي يأتي ويفتح لي المصعد المخصص لكبار الشخصيات. نبهني أنه سيغادر باكراً للذهاب لقريته لقطف الزيتون، وبالتالي عليّ إيحاد حل آخر إذا ما طال حفل التخرج، وهكذا عاد شبح نصار ابن عريبي يغزو ذاكرتي وسألته بفضول عن عدد الأشخاص من ذوي الإعاقة ممن صادفهم وهو فني مسؤول عن المصعد منذ خمس سنين. جاء الجواب المتوقع مع شرح كان صادماً: “لكل شيء مرة أولى وأنت الأول الذي أراه هنا على كرسي متحرك وليس من عملي أن احرس المصعد ولا أرى سبباً لكونك هنا في هذه الكلية بالتحديد… الكراسي بيدرسوا آداب لأنو ما في دوام هنيك”. وضحك وهو يقول “شو بدكن تصيروا دكاترة ومهندسين”.
تخيلت 50 كرسياً مدولبة تقدم الامتحان في كلية الآداب من غير أشخاص فوقها. ربما لم أكن أعني أنا وكرسيي ومجتمع الإعاقة لهذا الفني سوى أننا بحاجة لمصعد حتى نفى عنا انسانيتنا بهذه السهولة وأحالنا إلى جماد، كراسي.
لم تعجبني الطريقة التي أشار بها للكراسي. كثيراً ما أتعرض لمواقف مماثلة أتجاهلها ببساطة وقد أتألم منها عندما أعود لمنزلي، لكن كلام الفني صحيح وحقيقي فالطلاب من ذوي الإعاقة يختارون الكليات الأدبية لاستحالة وصولهم وصعوبة التجارب التي تتكرر كل يوم لو شاؤوا الحضور والدوام يومياً. في الواقع، لا أحتاج لأنسحب من الجامعة سوى تكرار أسبوع واحد مما عانيته قبل وصولي لقاعة التخرج فكيف سيحتمل أياً كان حضور عام دراسي كامل.
ترجم والد فرح كلامها عن مشروعها “صمت” وهو يتعرق في محاولاته للشرح في وقت لا يوجد في التعليم الجامعي مدرس ومترجم للغة الإشارة يساعد في الترجمة، لكن ولحسن الحظ، مشروع رهف يتكلم عن نفسه كفن مكتف بذاته.
تفاجأ الحضور في القاعة من طريقة تصفيقنا محتفلين بالنجاح ونحن نهلل بأيدينا من غير صوت وهي التحية المتعارف عليها في مجتمع الصم عند التصفيق، وسرعان ما انتشر تهليلنا بلغة الإشارة لنجاح رهف وحاول الجميع تقليده. تأثر الجميع بعمق لكن لا أتوقع أن أحداً منهم فكر في ذوي الاعاقة ووصولهم إلى المدارس والجامعات كما يصل أبناؤهم كل صباح.
لا يوجد ناجح في التعليم العالي في جامعات سورية إلا وخلفه جيش من الدعم غالباً ما يحمل الإخوة الكراسي أو حتى الأمهات إلى الطوابق العليا، ولا أعتقد بوجود مثال للنجاح بسبب توفير الحقوق الطبيعية.
ربما حمل الشخص المعوق على الأكتاف فيما يشبه الزفة يدل على الإصرار الموجود لدى مجتمع الإعاقة ومحيطهم في تحدٍ للواقع القاسي. لكني لا أستطيع إلا أن أرى في مشهد الرفع على الأدراج أنه لم يرفع شيء سوى الخيبة… خيبة للمجتمع وللقوانين ودليل على التقاعس والتهاون في أحلامنا نحن ذوي الإعاقة وعبر هذه الخيبة تأتي خيبات أخرى مثل منع مزاولة المهنة وشرط سلامة الجسد للانتساب للنقابات. تدرس الكراسي في الآداب، لأنه حتى إن تخرجت من الهندسة والطب سترفض مرة أخرى بسبب تلك الدواليب. وهنا وفي وجه هذه القوانين القديمة ينسحب ذوو الإعاقة وتنتصر الكتل الهندسية والأدراج على الأحلام، انسحاب نحو خيارات أخرى لا تقارب أحلامهم التي أرادوها.
دراستي الجامعية كانت في جامعة خاصة وموائمة للإعاقات الحركية ولم أطلب المساعدة من أحد طيلة حياتي الجامعية وكنت أستطيع الوصول لأي مكان فيها من غير جهد أو معاناة أما في جامعة تشرين لم يتطلب الأمر مني سوى دقائق لأستنجد المساعدة في الصعود للأعلى وعدا عن هذا كان عددنا كبير في الجامعة الخاصة وهناك في دوامنا اليومي المشدد نشعر بالتلقائية ونضيع بين الحشود تماماً كما يضيع أي شخص غير معاق وهذا أجمل ما في الأمر. ولا تراني كما ترى نصار ابن عريبي في الجامعات الحكومية عدا عن ذلك كلفة التعليم الخاص المرتفعة فيبدو الأمر بأن طالب العلم من ذوي الإعاقة يدفع ثمن المواءمة وهو أمر مقبول لهم لكن المال ليس لدى الجميع.
لماذا لا تصبح جامعاتنا ومدارسنا موائمة للجميع وكيف يمكن تحقيق ذلك ومعرفة كيفية الاستفادة من فئة ذوي الإعاقة وإدراجهم في الحياة الجامعية أولاً وسوق العمل ثانياً.
حتى اليوم لم أخبر رهف عن تجربتي في يوم حفل تخرجها لأني متأكد بأن رهف أيضا لديها تجربتها وهي التي درست هنا أربع سنوات.
أعود بعد الحفل إلى منزلي، أتذكر أن الفني أشار لي على أنني كرسي فقط أفكر في كلامه وكيف استطاع حذفي وحذف حياتي وتجربتي وعرفني على أني كرسي مدولب ربما سيستخدمه يوماً ما في المستقبل.
أسأل نفسي هل سيحذف نفسه يومها أم سيتذكر بأنه يوماً ما ساعد كرسي الصعود للطابق الثالث من غير شخص عليها وأضحك كالمجنون …