غادة الخطيب
لم تكن الأحلام يوماً تشبه قطعة السكر في فنجان شاي اعتدنا عليه كل صباح… ولم تكن مثل ذلك الصندوق الملون الذي كان يضعه ذلك الرجل ليطلع عليه أطفال الحارة…
كان حلما ينبض بالألم…
في مدينتي التي أعشق ومدرستي التي أحب، كان قدرنا أن نكون في مدرسة خاصة لذوي الإعاقة الحركية. كانت من أجمل أيام العمر. ذكريات وأحداث ولقاءات بين الأصدقاء حدثت هناك.
لن أخوض في هذه المرحلة كثيرًا فهي ملتصقة بالذاكرة وأعود لها كل يوم. كانت فكرة الجامعة تستحوذ علينا جدًا أنا وأصدقائي. ماذا ندرس؟ ماذا نستطيع أن ندرس؟ أو بالأصح ماذا نرغب وهل نستطيع دخول الفرع الذي نحب؟ كان فرع الصيدلة يستحوذ على تفكيري كثيراً ويزداد اهتمامي بتركيب الأدوية وقراءة الراشيتة الدوائية كثيراً. لكني كنت الوحيدة بين أصدقائي ممن يرغب بدراسة الفرع العلمي وجميعهم يريدون التسجيل في الفرع الأدبي. لم يكن لدي خيارات إلا أن أكون مع أصدقائي لأنه لا يوجد قدرة لفتح شعبة إضافية لطالبة واحدة في الفرع العلمي. كنت الأولى على دفعتي وكل الخيارات متاحة أمامي. في الحقيقة لم أفكر في أعلى فرع تتيحه علاماتي، بل اخترت ماذا يحتاج السوق حينها من اختصاصات. من بين الفروع المرشحة كان فرع الأدب الإنجليزي هو الأقرب لي كونه يفتح لي عدة خيارات في المستقبل. في تلك الليلة أخبرت والدي أنني سأذهب إلى الجامعة وأتعرف على هذا العالم الكبير.
طلبت من والدي أن أذهب بمفردي إلى الجامعة. لم يكن هنا وسيلة نقل متاحة لي والجامعة تقع على أوتوستراد المزة في مدينة دمشق. حقيقةً لا أعلم ما هو ذلك الشعور الذي استحوذ عليّ حينها. لقد بدأت الرحلة!!!
كان عليّ أن أركب السيرفيس إلى منطقة البرامكة وسط دمشق ومن ثم إلى الجامعة. كان المشهد مرعباً ومخيفاً. حشود من الطلبة تنتظر الحافلات لتأتي وتذهب إلى أعمالها وجامعاتها. نساء وشباب ورجال… كنت أنظر في عيون المارة، وأسأل نفسي كيف أستطيع أن أصعد ضمن هذا الطوفان البشري؟ دقائق قليلة ويناديني شاب… “يا آنسة تفضلي سأساعدك إذا أحببت”. فعلاً حجز لي مقعداً في الجهة المعاكسة. كان حظه سيئاً أنه جلس أمامي، حينها أراد أن يغلق الباب وأردت أن أشكره وأن أغلقه بدلاً عنه. تفاجأت حينها أنني أغلقت الباب على يده. كان المنظر مدوياً، دماء تتساقط، يارب ماذا حدث؟ بدأت في الاعتذار ومساعدته في إعطائه المحارم. كان وجهه بشوشاً، وقال لي: لا تقلقي يا آنسة حصل خير. لا أدري ماذا انتابني وقتها من أفكار، قلت في نفسي هل سيتكرر المشهد؟ هل سأغلق الباب مرة ثانية هكذا؟ أم سأغلق حلمي؟ أم أنسى فكرة الجامعة؟ فوضى أفكار ومشاعر وحزن وألم سيطر علي وأنا في ذلك الطريق إلى الجامعة. الأمر كان صعباً للغاية، طلبت المساعدة من الله لأكمل ذلك اليوم.
التاسعة صباحاً وقفت على باب الكلية، كلية الآداب من أكبر الكليات في مدينة دمشق وتضم أكثر من فرع تعليمي لديها. وكان عليّ أن أمشي مسافات طويلة حتى أصل إلى المدرج. مئات من الطلبة الذين أتوا لبداية عام دراسي جديد وحياة جديدة لهم، كل الزهور الموجودة بجانبي الطريق في مفاصل الجامعة الأساسية تحمل في طياتها كل الأمل في حب الحياة وتقبل التغيير أينما حل.
دخلت المدرج بمفردي، كنت الوحيدة من ذوي الاحتياجات الخاصة من بين مئات الطلبة. أحسست للوهلة الأولى أنني الدكتور المحاضر الذي دخل المدرج لكثرة العيون الموجهة لي.. تلقيت احتراماً كبيراً من كل الزملاء في المدرج وبدؤوا بالتعرف عليّ الواحد تلو الآخر، شعرت بمحبة الله كثيراً في وجوه هؤلاء. دخل المحاضر لإعطائنا المحاضرة الأولى، أتذكر حينها لا يوجد أحد من الطلبة فهم المحاضرة إلا قلة قليلة منهم. خرجنا لاستراحة بين المحاضرتين، قلت في نفسي الطريق طويل وقد بدأ ويجب أن أعمل ما في وسعي لأكون أحد الطلبة المتميزين. الاختلاف في المجتمعات عادة يلفت الأنظار وقدرنا في الحياة أن نكون مختلفين في الشكل فقط لكن لدينا القدرة أن نكون في المقدمة في كثير من المجالات. كانت بعض النظرات تزعجني والهفوات غير مقصودة من بعض الأصدقاء تجرحني. كنت أحاول قدر الإمكان ألا ترافقني كثيرا هذه التفاصيل، وأتقبلها قدر الإمكان لأن هناك مئات من المواقف التي ستصادفني في الجامعة وغيرها من الأماكن فالمدرجات في الجامعة عالية جداً والأدراج طويلة. أتذكر أنني وقفت أمام المصعد أنتظره فقال لي المستخدم: المصعد فقط للأطباء يا آنسة، فقلت له عفواً ربما أخطأت اختيار المكان…!
فكرت كثيرا لماذا كل هذا الاستهتار في مثل هذه الأمكنة كيف سيصعد الطلاب من ذوي الإعاقة إلى المدرجات الأخرى، لم أشعر في اليأس وقتها من التعليم والحياة والأمل في كل شيء… كان شعور المغامرة طاغياً في تفكيري، هل علينا أن نغامر لكي نعيش؟ عندها طمأنت نفسي أن الدوام لن يكون يومياً. كان هذا ما خفف عني عبء التفكير. في الساعة السادسة مساء، خرجت من الجامعة بعد أن حضرت أغلب المحاضرات المقررة لذلك اليوم. أتذكر حينها كان بداية المساء وكان الظلام قد بدأ يتجمع في السماء ككومة الأفكار التي بدأت تتجمع في عقلي، كيف سأكمل في هكذا ظروف، وكيف سأحصل على كل ما يساعدني في الترجمة وقراءة الروايات و… و… و… حينها أتذكر أنني بكيت وأنا أمشي على ذلك الطريق، لم أكن بكامل سعادتي كما توقعت. لماذا كل هذا الاختبار؟ لماذا كل هذه المعاناة؟ هل سترافقني على مدى سنوات الجامعة؟ حمدت الله كثيرا رغم قطعة الألم الكبيرة التي تشكلت في قلبي. انتظرت السيرفيس حتى يأتي وفجأة وقفت أمامي سيارة عابرة وبدأت تتهافت الكلمات حتى أركب بها… حلوة وراح وصلك و… و… لا أعلم ….
لا أعلم حينها كمْ عدد دقات قلبي أصبحت. قدر الله أن يأتي سيرفيس في تلك الدقائق وعدت إلى البيت. كان يوماً خارج الأيام، لا أعلم إن كنت سعيدة أو حزينة، إرادتي صلبة أو ضعيفة! سألني والدي حينها كيف كان الدوام فقلت له “كان من أجمل الأيام وبداية خير إن شا الله”. حمدت الله كثيراً أننا لا نستطيع أن نرى ما في قلوب بعضنا حتى لا يرى ما كنت فيه من حزن وألم كبير. طلبت منه أن أذهب وأعود إلى الجامعة في تكسي، كان حينها واضحاً وصريحاً معي وقال لي هذا الأمر سيكون ميسراً فقط في أيام الامتحان. فكرت كثيراً وكثيراً ولم أشهر بالراحة، وقررت حينها أن أبحث عن عمل أثناء الدراسة ولتنتهي الدراسة متى تنتهي… إن لم أكن في وضع مريح فلن أستطيع أن أدرس وأحقق ذلك التميز الذي أحلم به. كان ذلك اليوم من أطول الأيام في حياتي وأجملها وأصعبها. أذكر في تلك الليلة أنني وضعت خارطة طريق استبقت الزمن واختزلت في ذلك اليوم خطة حياتي كيف سأكون وأين سأكون