مادلين جليس
بين ليلة وضحاها تحوّل عاطف محفوض من شاب يزرع أراضي قريته جيئة وذهاباً، إلى شخص بلا حراكٍ، ينتظر يداً تمتدّ له ليغادر عتبة باب منزله.
الإصابة ومن ثمّ الشلل كانت حالة صادمة بالنسبة له، هل سيعود كما كان، كم من الوقت يلزمه ليطلق قدميه للريح ويجري بهما حيث يشاء؟
كانت أحلام العودة تتقلّص رويداً مع طول مدّة المعالجة، إلى أن أسلم نفسه لليأس، وأغلق نوافذ الأحلام.. دون انتظار أي شيء.
لكن القراءة أنقذته، وقع بين يديه كتاب، قرأه بشغف، ثم الثاني والثالث وهكذا.. كان كل كتاب يقرؤه يخرج به خطوة من نفق اليأس، إلى أن قرر صباح يوم أنه لن يبقى كما هو، وسيحوّل إصابته إلى نجاح يفخر أنه سببه.
يبتسم عاطف وهو يسترجع كلّ ما مرّ به خلال اثني عشر عاماً: “قبل الإصابة لم أدرك من أنا، وماذا أريد، لم أعرف سبب وجودي في الحياة، لكن بعدها عرفت أني كائن من قوّة، حدودي الشمس، وسقف طموحاتي السماء، وحتى ولو كنت دون أطرافي الأربعة، فإن الشمس بانتظاري”.
الإصابة
في عام 2011، أصيب عاطف بطلق ناري تسبّب بشللٍ في قدميه.
لم يدرك حينها أن حياته ستنقلب رأساً على عقب، وأن الأشهر التسعة التي قضاها في مشفى “حاميش” بدمشق لن تكون كافيةً لإنهاء رحلته العلاجية، انتقل بعد ذلك إلى مدينة طرطوس، ليتم علاجه الفيزيائي وليكون قريباً من المستشفى، بحكم بُعد قريته عنها.
“لم أتوقّع أنني سأتابع حياتي هكذا، كل ما كان ببالي أنّ ملازمتي المستشفى لن تطول، وسأعود بعدها لحياتي، لمنزلي وعملي، ورياضاتي المفضّلة”.
كانت الفترة الأولى صادمة له، أشعلت نار الأسئلة في رأسه: ” متى وكيف سأعود لحياتي الطبيعية؟ هل ستتذكّر دورب القرية ساقَي الطفل الذي ذرع دروبها جيئةً وذهاباً؟”.
على مدار ثلاث سنوات طاف الأمل حوله، رسم أحلامه بلحظة الشفاء، لكنه توقف بعد ذلك ليخبره أنه سيبقى هكذا، وأنّ قدميه لن تعودا كسابق عهدهما.
أسلم نفسه لليأس، وأغلق نوافذ الأمل، غير آبهٍ بضوء الشمس في الخارج، وانطوى على نفسه.
لكنه استفاق في اللحظة الأخيرة، وهرع يدفعه أمله ليفتح النوافذ ويبحث عن سبيل للخروج.
كنت أشعر أنّ طاقتي لا يجب أن تختبئ ضمن جدران أربعة، تحكمها نوافذُ وأبواب، ولذلك قررت الانطلاق بروحي نحو العالم الخارجي.
الأمل.. والعودة للحياة
مع بداية العام 2014 تصالح عاطف مع فقدان قدميه، وقرر الوقوف على ساق أحلامه، تدرّب ونجح في ممارسة مهامه بمفرده، دون الحاجة لأيّ مساعدةٍ من أحد.
اتّجه بعدها لينبوع إبداعٍ آخرَ، فكان العزف على العود، الطاقة الأكبر التي شحنت روحه، إلى جانب متابعة القراءة التي ساهمت في بناء شخصيته من البداية، وكوّنت عاطف الجديد بذهنه وأفكاره واتجاهاته.. وطموحاته أيضاً.
” لكنّني كنت أشعر أنّ طاقتي لا يجب أن تختبئ ضمن جدران أربعة، تحكمها نوافذُ وأبواب، ولذلك قررت الانطلاق بروحي نحو العالم الخارجي”.
حينها وجد عاطف نفسه أمام المواجهة الأصعب، وهي الظهور أمام الناس ولقائهم بكل ثقة دون أي إحساس بالنقص عنهم، فاتبع دورة تقنية، وأنشأ مشروعه الصغير في بيع العطورات ومستلزمات أجهزة الخليوي.
التعامل مع الأطفال أكبر مساهمة في نشر رسائل السلام والتسامح لدى الجميع، السعادة التي تولّدها ابتساماتهم، قادرة على محو كل حزن في القلوب”.
كان العام 2015 عام التحولات الكبيرة في حياته -كما يسميه عاطف- فمن خلال أحد أصدقائه وصل إلى جمعية “فضا” للتنمية المجتمعية، اتبع فيها برفقة عدد من المصابين برناماً لبناء القدرات.
كان هذا التدريب هو الخطوة الأولى التي وضعت عاطف على أول درجة في السلم، فقد بدأ حينها بالعمل التنموي والمجتمعي، وأنشأ الشبان المشاركون في البرنامج فريقاً أطلقوا عليه اسم “قادرون”.
قام الفريق بعدة مبادرات كان أولها وضع “رامبات” أو منحدرات للكراسي المتحركة في عدد من المدارس والمستوصفات لسهولة وصول ذوي الإعاقة، ومن ثم إجراء عمليات لعدة أطفال، إضافة إلى تقديم إعانات مادية لبعض المحتاجين.
بعد ذلك أقام عدة فعاليات ثقافية مع أطفال ويافعين تضمّنت رقص باليه ومسرحيات، كانت من تأليف وإخراج عاطف محفوض.
” التعامل مع الأطفال أكبر مساهمة في نشر رسائل السلام والتسامح لدى الجميع، السعادة التي تولّدها ابتساماتهم، قادرة على محو كل حزن في القلوب”.
في عامي 2018-2019 انتقل عاطف للعمل مع قرى الأطفال SOS، ومع بداية العام 2020 عمل ميسراً في جمعية “فضا”.
ورغم كل ذلك، لم يشأ لهذا الطريق أن يتوقف، بل رسم له اتجاهاً أكاديمياً جديراً به، وهو دراسة الاقتصاد في جامعة طرطوس في عام 2018 باختصاص “إدارة المشاريع” ومن ثم التخرّج منه منذ عدة أشهر.
بدأ نشاطه في العام 2020 كمدرب في فريق ” قادرون” قدم خلال ذلك عدداً من الدورات لفئة اليافعين، منها دورات إدارة الوقت، وتعزيز الثقة بالنفس، إضافة إلى دورات لتحفيز طلاب الشهادات الإعدادية والثانوية، كان آخرها دورات الدعم النفسي لمتضرري الزلزال.
جميعنا في هذه الحياة مصابون، بأشكال وطرق مختلفة، لكنّ الناجي هو من يستطيع تحرير روحه والانطلاق باتجاه أحلامه، ومقاومة الظروف في سبيل تحقيقها”.
من الإصابة للقوّة
حين سؤالنا عن الإيجابية التي رآها في الإصابة، توقّعنا أن يكون جوابه هو الدعم المقدم له من أهله وأصدقائه، لكن جواب عاطف كان مدهشاً للغاية، فقد رأى أنّ الإصابة هي الأمر الإيجابي الذي حدث له، عندما حوّلها لقوة، وعندما ولّد من الألم أملاً لا ينتهي.” قد يرى كثيرون أنّ الإصابة أمر محزن للغاية وهي كذلك، لكنها تكون عكس ذلك عندما نقرّر أن نخلع ثوب الضحية، وعندما نصنع أنفسنا بأنفسنا، وعندما نكون نحن، بكل مافينا، من اكتمال أو نقص، لنصبح بذلك ” ناجين” وليس “ضحايا”.
الآن يتجه عاطف نحو الماجستير، والدكتوراه من بعدها، جنباً إلى جنب مع التوسّع في عمل الفريق الذي رُخّص رسمياً كمؤسسة تنموية ثقافية.
عاطف لا ينتظر الفرص كما يقول، بل يركض باتجاهها، يتمسك بحبال الإنجاز، ويمدّها لغيره ممن مروا بتجربة مماثلة، يساعدهم على المضي والوصول مثله.
عدد من رفاقه أصابته عدوى النجاح، فبدؤوا بالدراسة في الجامعة، وعدد منهم استطاع بعد عزلة طويلة الخروج والاندماج في المجتمع كما كان قبل الإصابة.
يختم عاطف حديثه بأمنيته في تغيير العقلية السائدة في المجتمع، العادات والتقاليد والأفق الضيق، يقول: ” جميعنا في هذه الحياة مصابون، بأشكال وطرق مختلفة، لكنّ الناجي هو من يستطيع تحرير روحه والانطلاق باتجاه أحلامه، ومقاومة الظروف في سبيل تحقيقها”.