خليل سرحيل
لقد خلقت السينما الوثائقية، على امتداد نشأتها وحتى اليوم، الكثير من الأمثلة التي توثق وتخلق الحوار تجاه القضايا المهمة التي تريد نقل صورتها، وهذا ما نجحت به نتفلكس عندما أصدرت فيلماً وثائقياً جديداً بعنوان rising pheonix في عام 2020.
الفلم من إخراج مشترك وفريد من نوعه، بين المخرج الوثائقي إيان بونهوت والمخرج الدرامي بيتر إيتيدجوي، في عمل يجمع بين التوثيق الحقيقي والفن التصويري الرائع ويمزج بين تاريخ الألعاب البارالمبية وبين البطولة والإلهام.
يمتد الفيلم لمدة 140 دقيقة مليئة بكل ما تحتاجه البشرية من أمل وإصرار ومن تحد ومواجهة في قصة يرويها المنظمون لدورة الألعاب البارالمبية ويتحدثون خلالها عن الإعاقة وذوي الإعاقة ودور الرياضة في التأهيل ليدافعوا عن حق هذه الفئة في الحياة الطبيعية، كما يروي الفلم عدة قصص على لسان أبطال عالميين في مختلف الرياضات البارالمبية. كل لاعب يكشف أرشيف حياته وتجربته مع الإعاقة وكيف أثرت الرياضة على تحقيق الذات سواء في حالات الإعاقة المكتسبة أو الإعاقة منذ الولادة.
لم أتعلم في مشاركتي الكثير عن الانتصار لكنني تعلمت الكثير عن الإنسانية.
بأسلوب مشوق، يخاطب الفلم الحالمين والبائسين معاً ومن هم بحاجة إلى دليل للنجاة. تتداخل قصص اللاعبين التي هي من قلب الواقع، والتي قد تحدث لأي أحد، يسردها أبطالها بأنفسهم، وهي قصص مدعومة بمواد مرئية للأبطال منذ الولادة حتى لحظة النصر، وهو ما أكسب العمل مصداقية في التوثيق الشخصي.
ففي لقطة نرى الأطباء يقومون ببتر أطراف أحدهم بعد ولادته، لنراه يركض بعد ذلك وهو شاب بطرف رياضي في حلبة السباق. يصدر هذا الطرح العميق لقصص الإعاقة عن تجارب الأبطال وليس عن طريق المختصين هرباً من الجمود والركود الذي لم يظهر طوال مدة الفيلم.
تجدر الإشارة الى التوافق بين مخرجي العمل على الخروج بفيلم يتحدث بالخط العريض عن الإعاقة دون ربطها بالشفقة، وهو ما كان تحدياً كبيراً، استطاع مخرجا العمل تحقيقه والعبور بنا من دون السقوط في لحظة شفقة واحدة، وهو أمر خلق تميزاً في الطرح ونقل صورة غاية في الحساسية والحقيقية.
على نسق منفصل، يظهر تصوير الأبطال بأسلوب فني توثيقي يعتمد السلو موشن في تصوير بورتريهات كل بطل، وهي ميزة فريدة لأنها تتطابق مع سرد الأبطال لتعبيراتهم عن أنفسهم، وهذا يدل على فهم المخرجين لوجهة نظر الأبطال أولاً، وتبني قصصهم ونقل الإحساس بها كما هي بالحقيقة ثانياً.
الموسيقى تحفيزية والتأثيرات الصوتية واضحة وتعطي إحساساً بالتشويق كما هي الأفلام الرياضية بالعادة.
من بين الرياضيين الذين ظهروا في الفيلم بيبي فيو (إيطاليا) ، إيلي كول (أستراليا) ، جان بابتيست أليز (فرنسا) ، مات ستوتزمان (الولايات المتحدة الأمريكية) ، جوني بيكوك (المملكة المتحدة) ، كوي زهي (الصين) ، رايلي بات (أستراليا) ، نتاندو ماهلانغو (جنوب أفريقيا) وتاتيانا ماكفادين (الولايات المتحدة الأمريكية).
تمتاز أفعالنا وأنشطتنا البشرية بقدرتنا على الإبداع وبناء الأفكار عبر الأجيال. وهذا بالضبط ما يقدمه الفيلم، حيث يُظهر لنا كيف يُمكن لفكرة صغيرة صادرة عن طبيب هارب من المحرقة في مجال التأهيل الرياضي أن تتحول لتصبح ثالث أكبر حدث رياضي على وجه هذا الكوكب.
أستعد للإلهام! هذا الفلم سيدعك تلمس الشعلة الخفية للرياضة بوصفها قوة تحقق التغيير. كما سيستكشف تاريخاً غير مكتوب بعدسة فنية حساسة وعميقة. وأخيراً، سيدخل إلى عالم الإعاقة من بابه الأضيق والأشد بأساً، الروح البشرية التي لا تستسلم…
بدأت الألعاب البارالمبية كفكرة على يد الطبيب الهارب من محارق النازية لودفيغ غوتمان عندما نظم دورة ألعاب عالمية مخصصة للكراسي بعد الحرب العالمية الثانية ومن هنا بدأ الوعي باستخدام الرياضة في التأهيل لتبدأ في عام 1960 أول دورة ألعاب بارالمبية في العالم في لندن عاصمة إنجلترا.
مرت الألعاب البارالمبية بكثير من الصعاب على مستوى التنظيم والإقامة بسبب التطور التكنولوجي والطبي من جهة وبسبب الحالة السياسية العالمية الخاصة في تلك الفترة وكان هذا واضحاً عندما رفض الاتحاد السوفييتي إقامة دورة للألعاب في مدينة موسكو بحجة أن الاتحاد السوفييتي لا يوجد به ذوي إعاقة. كما أن الصين وبمجرد أن أقامت دورة للألعاب على أراضيها هيمنت على الألعاب وأصبحت رقماً صعباً في رياضات البارالمبيك.
تغير الواقع اليوم بسبب العولمة، وبسبب وعي المنظمين والحكومات بمنافع ألعاب البارالمبيك المختلفة اقتصادياً واجتماعياً وحقوقياً لكن هذا التطور خلق معه صورة واضحة للتمييز عندما يفقد الأمل بتحقيق الربح المادي من التنظيم وهو ما سبب ضياع مجهود ونجاح الدورات اللاحقة وعزز من صورة التمييز والإقصاء وهو محور الفيلم التوثيقي لمشاكل إقامة دورة الألعاب في مدينة ريو بحجة انعدام التمويل وعدم اليقين من تحقيق الربح المادي ونجاح التنظيم.
بدأ المسار الحقيقي من لندن مرة أخرى في عام 2012 وافتتحت الملكة اليزابيث الدورة وخطب العالم الشهير ستيفن هوكينغ عن الاختلاف وخصائص التنوع وبدأت بعدها الصورة الحقيقية لدورة الألعاب بالسطوع مجدداً في عواصم ومدن العالم المختلفة في إشارة للإصرار والنضال لتحقيق المساواة وحيازة الميداليات.