منصة إرادة- مادلين جليس
عند تواصلي مع طلاب محافظة السويداء الذين يدرسون في الجامعات السورية على اختلافها، كان التساؤل الأبرز لدى معظمهم: هل سنعود لجامعاتنا قريباً؟. وعلى الرغم من بساطة السؤال، إلا أن الجواب عنه يبدو كبيراً بحجم بلد بأكمله.
عمران وسامي وخولة وسيدرا وغيرهم من الطلاب، لم يتسنَّ لهم وداع جامعاتهم ومدنهم الجامعية كما يليق بها، وكما يليق بسنوات الدراسة التي قضوها فيها.

الجامعة... ليست مجرد قاعة صف
تعمل الحياة الجامعية كبيئات مختلطة ومفتوحة، تُمكِّن الخلفيات المتنوعة من التلاقي على المستوى الإنساني وتنزع عن بعضها الصور النمطية التقليدية. تاريخياً، احتضنت أربع جامعات رئيسية في سوريا – دمشق، حلب، حمص، واللاذقية – التنوع السوري بكل أطيافه. لعبت معدلات القبول الجامعي دوراً في إعادة توزيع الطلاب جغرافياً واجتماعياً، فانتقل ابن السويداء إلى حلب، وابن دمشق إلى اللاذقية، ليس فقط لتحصيل علمي، بل لاكتساب تجربة حياتية وثقافية نادرة.
في السكن الجامعي، لم يقتصر الأمر على التعرف إلى أهل المحافظة التي نُقل الطالب إليها، بل تعداها إلى لقاء أبناء محافظات أخرى، وتشكّلت صداقات وعلاقات تشبه الأخوة، صنعت مجتمعاً مصغراً يجسّد تنوع سوريا.
في سنوات الثورة الأولى، تصاعدت الانقسامات السياسية والمناطقية، وتعرض عدد غير قليل من الطلاب للفصل الجامعي، أو تركوا دراستهم الجامعية نتيجة خروج مدنهم من سيطرة النظام السابق، لتخسر سوريا واحدة من الفضاءات المجتمعية القليلة التي كانت تتيح حداً أدنى من الحوار والتلاقي. لعب الاتحاد الوطني لطلبة سوريا دوراً محورياً في قمع الأصوات المعارضة للطلاب الجامعيين، وتحول إلى “ذراع أمني بحكم الأمر الواقع” لنظام الأسد، وشارك بشكل مباشر في الاعتقالات وحملات التهديد.
خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة، كانت جامعات الصمت قد دفنت طبقات فوق طبقات من الانقسام والكراهية والتفتت، وتشوهت الحياة الجامعية بفعل الديكتاتورية، والحرب، والعسكرة. ورغم الاصطفافات السياسية والمناطقية، حاولت بعض المبادرات الثقافية أن تثبت أن الجامعة ليست فقط مؤسسات للتعليم الأكاديمي، بل مختبر للمواطنة والعيش المشترك.
خولة ش، طالبة كلية طب الأسنان في جامعة حمص، وجدت نفسها يوم الاثنين ٢٨ نيسان في بولمان يعود بها إلى قريتها قبل وقت العطلة الصيفية بكثير. كانت قد قضت ليلة من الرعب، بعد أن وضعت وصديقاتها كل أغراض غرفتهن من مكاتب وكراسي أمام الأبواب، فيما التهديدات والهتافات تعلو وترتفع بشكل مخيف في ساحة السكن الجامعي بحمص. العودة المؤقتة إلى البيت أصبحت سنة دراسية ضائعة، وربما مستقبل كامل. تقول: “ابن السويداء عندما درس في حلب لم يتعرف على الحلبيين فقط، بل صادق الحمصي، وأحب الحموي، وشارك الديري، ولذلك فقط احتفظت أنا وغيري بذكريات جميلة عن السكن الجامعي الذي كان فرصة كبيرة لنعيش مع بعضنا البعض في غرفة واحدة في حياة أقرب إلى العائلة الواحدة.” وتضيف: “لا أصدق كيف تبخر هذا كله.”

من حرم الجامعات إلى ساحات الاقتتال
حرمت مجازر الساحل وأحداث ريفي حمص وحماة كثيراً من طلاب الجامعات، لا سيما الفتيات، نتيجة امتناع أهاليهن وخوفهم من إرسالهن إلى جامعاتهن في عدد من المحافظات، وأجل كثير من الطلاب دراستهم إلى أجل غير مسمى، بانتظار “عودة الأمان” الذي يزداد غياباً يوماً بعد يوم.
في آذار الماضي، وبعد مجازر الساحل، غادر عدد كبير من طلاب السويداء الجامعات في المدن الساحلية، مثل اللاذقية، بسبب تصاعد التوترات الطائفية. لم يمض وقت طويل، حتى استطاع تسجيل صوتي مجهول إشعال فتيل فتنة بدأت بتاريخ ٢٩ نيسان ولم تنته حتى الآن. ولعل مشهد الأعداد الكبيرة من الطلاب “الدروز” الذين حزموا حقائبهم مغادرين مدنهم الجامعية بلا رجعة، سيبقى عالقاً في ذاكرة الجامعة السورية كتذكرة بأن الانقسام المجتمعي لم يعطل التعليم مادياً فحسب، بل شطره اجتماعياً بشكل عميق.
ومع ذروة أحداث السويداء الأخيرة، تم تسجيل موجة انسحاب جماعي من الحياة الجامعية إلى حين هدوء “الوضع الميداني” الذي يبدو أنه يزداد تعقيداً، وبالتالي لا يبدو بالمدى المنظور وجود أي أمل لعودة هؤلاء الطلاب إلى حياتهم وإلى سابق عهدهم.
في حمص وحلب ودمشق، تكررت أيضاً مشاهد التوتر في المدن الجامعية، فحدثت اشتباكات بين الطلاب، وسُجّلت حالات تهديد ومضايقة طالت أساتذة وطلاباً على خلفيات مذهبية أو سياسية.
ذكر الطلاب صراحة أن الخوف على حياتهم والتحريض كان السبب الرئيسي وراء نزوحهم الجماعي. وشملت الحوادث تعرض عدة طلاب للضرب والاعتداء في المدن الجامعية بحلب وحمص ودمشق، وهناك تقارير عن اعتقالات طالت عدداً من الطلاب سواء بوصفهم من “الفلول” أو بسبب مواقفهم من الأحداث الأخيرة في السويداء. واجه العديد من الطلاب مثل سيدرا-ب، وهي طالبة طب طوارئ في جامعة دمشق في السنة الرابعة، تهديداً مباشراً بالحرمان الأكاديمي أو الرسوب بسبب غيابهم القسري. تقول سيدرا: “لم أعرف حتى هذه اللحظة إن تم فصلي من الجامعة أم لا؟ قبل الأحداث الأخيرة في السويداء، كنا نتواصل مع إدارة الجامعات كي تضع لنا خطة بديلة لامتحاناتنا هذه السنة، لكن الآن، يبدو أننا سنخسر دراستنا كلها.”
أصبحت الجامعات بؤرة للاحتقان، وهدفاً غير مُعلن للتفكك. انتقلت الحساسيات سواء على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي، من على صفحات التواصل الاجتماعي إلى أروقة الجامعات، لتكرس دوامة العنف الحالية التي سحبت بعض الشباب الجامعي من مقاعد الدراسة للانخراط في مجموعات مسلّحة، يجد فيها حماية أو تعويضاً عن مستقبل جامعي ضائع، فيما أعلن عدة أساتذة جامعيين استقالاتهم أو مغادرتهم للبلاد.
في النتيجة، فإن الطلاب السوريين مروا بأكثر السنوات صعوبة في تاريخ دراستهم، من الوقوف على الحواجز، وتبادل الأفكار المعارضة بقلق وحذر كبير، وتحديات الحساسيات السياسية والطائفية والمناطقية، إلى مخططات الهجرة والهروب من الخدمة الإلزامية العسكرية. إلا أن السنة الدراسية الحالية مصيرية، فطلابها مهددون بشكل حقيقي ليس بخسارة هذه السنة فقط، بل هم مهددون بخسارة إمكانية استكمال جامعاتهم وتعليمهم. في تسجيل قصير على الواتساب، يقول لي سامي-هـ الذي كان يدرس في اللاذقية قبل أن يغادرها منذ شهرين: “أصعب شي أن يتحول همك من أن ترفعي آخر مادة إلى أن تظلي عايشة بس مش أكثر.” بلهجة أهل السويداء قال سامي عبارته بغصة واضحة.
اللافت أن هذه الأزمة ليست نتيجة قصف أو دمار مباشر للبنية التحتية، بل هي نتيجة تفكك المعنى والدور الذي كانت تمثله الجامعة: التلاقي، الاختلاف، الحوار، إنتاج المعرفة، والعيش المشترك.

هل ما زال بالإمكان الإنقاذ؟
اليوم، تبدو الجامعات السورية كأضرار جانبية للمعارك، وضحية منسية لخطاب الكراهية والانقسام. لم تعد فقط مكاناً مهدداً، بل مفهوماً مهدداً. الجامعة، بوصفها مساحة مدنية، كادت أن تختفي.
في ظل غياب استراتيجية وطنية واضحة لإنقاذ التعليم، يبدو السؤال الأكثر إلحاحاً: هل ما زال هناك متسع من الوقت لإنقاذ ما تبقى؟ هل نستطيع تحصين ما بقي من فضاءات الحوار، في وجه خطاب طائفي متصاعد، يجد له مكاناً سهلاً في أذهان الشباب عبر وسائل التواصل؟
للسلطات الكلمة، وللمجتمع مسؤولية
هذه المقالة دعوة واضحة وصريحة: لإنقاذ التعليم، وإنقاذ الجامعات، وإنقاذ الجيل الذي كان يجب أن يحمل الشهادات، لا السلاح.
يجب على السلطات المسؤولة، أياً كانت، أن تدرك أن انهيار الجامعات هو انهيار لبنية المجتمع كله، وأن عودة الحياة الجامعية لا تتطلب فقط ضمان الأمان الفيزيائي، بل إعادة بناء الثقة، والمساحات الآمنة، والاحترام المتبادل.
ويجب على المجتمع الأهلي، وعلى النخب الثقافية، والشباب الواعي، أن يتقدموا الصفوف، وأن يحاربوا خطاب الكراهية، ويعيدوا الاعتبار لمساحة كانت في يومٍ ما مرآة لسوريا الممكنة: المتنوعة، المتصالحة، المنتجة للمعرفة والحوار.