خليل سرحيل
لا يتردد فيلم مسكون للمخرجة السورية لواء يازجي أن يسكن الأماكن التي لفظت سكانها وتركتهم يجمعون ذكرياتهم فيها قبل القلق العظيم، قلق التخلي والهجرة من المكان والبيت والبلد، وبهذا الحمل الثقيل يجلس الأبطال أمام كاميرة لواء الشخصية، ليتقاسموا معها تعريفهم للبيت والمنزل والخوف من الموت والتهجير في رحلة شخصية وكاميرة تطل على الحرب السورية وثورتها التي تظهر كعامل أساسي في تغيير مفاهيم كثيرة لدى السوريين كالهوية، والمنزل، والانتماء، والفقد.
صدر فيلم “مسكون” عام 2014، وهي فترة محورية في تاريخ الصراع السوري، فقدك منظوراً فريداً حول التجارب الإنسانية المعقدة في زمن التحولات الجذرية. لكنه من جهة أخرى، مثل أيضاً، جزءاً من موجة سينمائية مستقلة نشأت في ظل ظروف استثنائية.

تشريح التهجير والفقدان
يركز الفيلم على تجارب شخصيات مختلفة من سوريين وفلسطينيين ومن الجولان المحتل. يروي كل منهم تجربته وعلاقته التي على وشك التغيير مع المكان. يميز الفيلم بين حنين كبار السن للبيوت المفقودة، بينما تبدو قدرة الشباب على المضي قدمًا في الهجرة أو النزوح واضحة. توثق أحداث الفيلم أشخاصًا على وشك الانسلاخ عن المكان، ومن انسلخ بالفعل أو يقطن في خيمة أو كوخ. هذا المكان الذي كوّن لهم معارفهم الأولى، ولغتهم، وذكرياتهم، وعلاقتهم ببعضهم ومع المجتمع، قبل أن تحل لحظة القرار، حيث تصبح المساومة بين الذكريات التي يمكن حملها والموت الوشيك. بين سوريا ولبنان ومخيمات اللجوء، وعبر سكايب، تحاول المخرجة لواء التأكيد على الارتباط العاطفي بالمكان (البيت)، والحنين إلى الوطن والبيوت التي فُقدت بسبب الحرب، وتوثيق الذاكرة الجماعية التي يشترك بها السوريون وغيرهم.
لم يكن السوريون وحدهم من أصابهم قلق الانسلاخ عن المكان. وثّق الفيلم تجارب لشخصيات فلسطينية تنقلت كثيرًا بين البلدان، إلى أن لفظتهم دمشق. كما بقي الجولان حاضرًا، حيث يقرر أحد الشخصيات ترك دمشق لاستحالة العيش فيها، والعودة إلى الجولان المحتل، بعد أن فقد المكان والأصدقاء من حوله، ليخرج هكذا من تحت احتلال إلى احتلال آخر.

السينما المستقلة كفعل مقاومة
يُصنف فيلم “مسكون” ضمن فئة “أفلام المخرج الواحد” التي انتشرت بشكل لافت خلال سنوات الثورة السورية. لم تكن هذه الظاهرة مجرد اتجاه فني عابر، بل كانت استجابة مباشرة لواقع مُعقد تميز بغياب شركات الإنتاج التقليدية وعجزها عن العمل داخل سوريا، بالإضافة إلى الملاحقات الأمنية التي طالت المثقفين والفنانين. هذا السياق القمعي لم يُعِق الإنتاج السينمائي فحسب، بل حفّز ظهور أشكال جديدة من التعبير الفني، حيث تحولت القيود المفروضة من قبل النظام إلى محفز للإبداع المستقل. أدت هذه الظروف إلى نشأة حركة سينمائية فريدة، اتخذت من الفيلم المستقل وسيلة للقول والتعبير، مما جعلها بمثابة فعل مقاومة فني في وجه نظام الأسدين، ووثيقة نقدية للذاكرة الجماعية. لم تتطور صناعة السينما التسجيلية في سوريا بالقدر نفسه الذي تطور فيه المخرجون المستقلون وقدرتهم على حمل قضاياهم إلى منصات أخرى، مما أكد على دورهم كأصوات حرة في زمن الصمت الطويل.

الانسلاخ وإعادة التشكيل
ليوم يُعرض الفيلم في سوريا بعد أن مُنع من العرض طويلاً. وبدأ السوريون بالعودة إلى بلادهم، وكذلك الفلسطينيون بدأوا بالعودة إلى مخيم اليرموك والحجر الأسود. لم يحدث شيء سوى أن النظام الذي هجّرهم سقط، تاركًا البلاد لشعوبها ورحل إلى غير عودة. وتزامن العرض الثاني للفيلم في سوريا مع خبر إغلاق مخيم الركبان المشهور، وخروج جميع سكانه إلى بيوتهم ليبنوها مرة أخرى. وهذه الفرحة قد عبّرت عنها المخرجة في حديثها بعد عرض الفيلم. فالإنسان الذي عانى طوال ثلاثة عشر عامًا قد انتصر، وربما في المستقبل القريب سيعيد ترتيب حقائب الذكريات بعد سفر طويل.
فيلم “مسكون” فيلم قلق لا يحمل الكثير من المسرة والبهجة، بقدر استطاعته على نقل المشاهد ليعيش تجربة النزوح والخوف، حيث استخدمت المخرجة موسيقى توحي بالتوتر والخوف من الآتي، ومليئة بالترقب الفارغ، لتتشابه تمامًا في التصوير وحركة الكاميرا مع الحالة النفسية للشخصيات التي تعاني من الخوف والتقلص والقلق. صوّرت المخرجة دواخل الإنسان ودواخل المنازل؛ بشر محطمون ومنازل مهدمة؛ خيم هشة مع ذكريات للماضي الجميل قد بدأت بالتحلل والاندثار.
من خلال جمع هذه الروايات الفردية، لا يكتفي الفيلم بالتوثيق فحسب، بل يساهم بنشاط في الحفاظ على ذاكرة ثقافية مُهددة بالضياع. يُقدم الفيلم بذلك سردًا مُضادًا للروايات الرسمية، ويُمكن أن يُشكل أساسًا لتعزيز “التعايش والسلم الأهلي” في المستقبل، عبر الاعتراف بالصدمات والتجارب المشتركة.
“مسكون” الذي نال جائزة التحكيم عن فئة الأفلام الأولى في مهرجان مرسيليا الدولي للأفلام الوثائقية 2014 حيث عُرض لأول مرة، إضافةً لجوائز أخرى، لايزال يروي مآسي السوريين عبر مشاركته بمهرجانات وتظاهرات عالمية لغاية الآن، وسيبقى وثيقة هامة يستطيع السوريون العودة إليها متى فقدوا بيوتهم، علّهم يجدونها مرة أخرى.