خليل سرحيل
أمام مدخل الإسعاف وقد مضى على وصولي للإسعاف 45 دقيقة. أنظر الى المسعفين في الغرفة أمامي، ثلاثة أطباء يدخنون السجائر تحت لوحة تحذر من التدخين في غرفة الإسعاف. يلعبون على هواتفهم على تطبيق للمراهنات بحثاً عن الثراء السريع. أنتظر الطبيب الذي قالوا إنه قادم ولم يأت.
مضى على خروجي من هذا المشفى أكثر من عشر سنوات. ولكن في كل مرة يقول لي جسدي توقف، يعود شبح المشفى يلاحقني. فأنا لم أستقبل به مولوداً، بل أذكر جيداً أني صرخت على طبيب الإسعاف لأنه توقف بوجه قدري وأنقذني من الموت..
لكني اليوم أقف على مدخل الإسعاف أريد علاجاً سريعاً لأعود الى عملي. وفي داخلي خوف من أن يراني الطبيب الذي أسعفني قبل عشر سنوات. بعد أن تم تشخيصي، تبين أن ارتفاع حرارتي تدل على التهاب قوي هو سبب الحمى التي أعاني منها. وعلى هذا التشخيص تم قبولي للدخول الى المشفى الذي أكره.
توقفت حرارتي عن الارتفاع منذ اليوم الأول، وبدأ الالتهاب بالانحسار. لكن الكوابيس لم تكن تفارقني. والهذيان المرافق لها جعل طريقة تفكيري تجاه الأشياء غير مترابط. ومن العدم انبثقت في رأسي فكرة أني سجين ومصيري أصبح ملكاُ لغيري، ولم أعد أطيق وجودي في المشفى. أشرح لوالدتي أسباب اختناقي، وتحاول هي من دون إصرار أن تبقيني في المشفى، فهي كانت معي أيضاً قبل عشر سنوات. ولها ذكرياتها الموجعة أيضاً فيها.
خلال الأيام الثلاثة التي تلت، تلقيت العلاج حسب التشخيص الذي قدمه الطبيب المسعف، ولم أحظ بفرصة أن يفحصني طبيب مختص. أجريت الايكو وتم تأكيد وجود كمية كبيرة من الرمال داخل كليتي الوحيدة. أعطوني الدواء عندما رؤوني ملحاً على الخروج من المشفى.
وفي الطريق إلى البيت. قالت أمي أني لن أشفى حتى أدفع النقود، وأتلقى العلاج على نفقتي الشخصية. فالمشفى غير نظيف، والأطباء لا يرغبون بالعمل. تريثت حتى أنهيت حبوب الدواء التي وصفوها لي. ولكن بعد ثلاثة أيام من انتهاء الدواء عادت الأعراض لتظهر.
ذهبت إلى العيادة على نفقتي الخاصة. وتم تشخيصي وعلاجي وأجريت الإيكو، وقال لي الطبيب أن لا وجود للرمل في كليتي الوحيدة. وأنها بحالة جيدة. سألني عن سبب قولي بأني لا أملك مرارة. أخبرته أن التشخيص الذي معي هكذا يقول. وبدأ يضحك، وهو يمسك بيده جهاز الايكو اللزج يفحص بطني به: “هذه هي المرارة أنا أراها أسفل الكبد”. أخبرته أنه أمر مستحيل فأنا أعيش منذ عشر سنوات بدونها. نادى على صديقي كي يؤكد لي وجودها. وبالفعل تأكد من ذلك. أراقب المشهد وأفكر في كلام أمي عن دفع النقود للشفاء وعن قدرة المال على شراء ليس العلاج فقط، بل حتى الأعضاء التي عشت وأنا استأصلها من جسدي كلما سألني طبيب عن صحتي.
سألني عن الأعضاء البقية المذكورة في التقرير. وقام بفحصي وهو يضحك. لكن لم يجد شيء، ضحك أكثر وقال لي في نوبة ضحكه: المكان فارغ ويصلح للعمار.
أعطاني الدواء الصحيح، والنصائح اللازمة. وأنا بدوري دفعت النقود له.
في المنزل أشرح لأمي على الهاتف أنهم وجدوا مرارتي وهي ليست مستأصلة مثلما يقول التقرير. سألتني إن كنت سعيداً بهذا الخبر، لم أستطع الإجابة، لأن في داخلي إحساس بأني خلال هذه السنوات التي مضت كنت أعرف جسدي من دونها. أفكر في العلاج المجاني الذي قدم لي في المشفى قبل عشر سنوات، والذي قام بتشخيصي وسلبني بمجانيته مرارة أو ربما سلبني جسدي كله. من يعرف أو من يستطيع التأكيد.
اليوم تعتبر نسبة هجرة الأطباء نحو الخارج عالية جداً. وخلال فترة التدريب في المشافي المجانية، يدرس معظمهم اللغة الألمانية وهذا حقهم. وفي دواخلهم إحساس أن وجودهم هنا في هذه البلاد هو وجود مؤقت. فلا شيء يشجعهم على البقاء. والجميع لديه الحق في تحقيق أحلامه.
أما نحن المرضى نتصيد الأطباء الماهرين، راضين بالوقوف طويلاُ في غرف الانتظار والعيادات. نبحث عن صحتنا في مكان لا يعطي إلا السخرية ويأخذ الخطأ على أنه فكاهة من الطبيعي حدوثها. نشاهد على وسائل التواصل الاجتماعي كل شهر، نعوات لموتى قتلهم الإهمال الطبي والتشخيص الخاطئ. في مكان يسوده المحسوبية وغياب تطبيق القوانين.
أصبحت لدي الآن استراتيجية جديدة لمعرفة وضعي الصحي، وأصبح لدي فهم للطبيب الجيد من الطبيب السيء. فالطبيب الجيد يعطي وقت ليستمع ويسجل الملاحظات ولا يُشعر المريض لديه بأنه يهدر وقت الطبيب. أما الطبيب السريع يتعامل مع الشخص على أنه زبون..