كان عمر منيرة تسعة أشهر عندما نزح أهلها من مدينة داريا في يوم حار من عام 2013، ارتفعت حرارتها كثيراً وبكت كثيراً، لكن العائلة المشغولة بتأمين الوصول الآمن إلى بلدة النشابية في أطراف الغوطة الشرقية لدمشق، اكتفت بضمادات الماء والخل.
بعد هذا اليوم الطويل، ستتذكر ماجدة كيف كان بات أطفالها الأربعة يستيقظون صارخين يبحثون عن حضنها في الظلام كلما سمعوا صوت الطائرات واستعدوا خائفين لسقوط القذائف، بينما كانت طفلتها الخامسة منيرة تبقى مستغرقة بالنوم العميق. تغفى كملاك لا يخش الحرب ولا يكترث بأصواتها. في اليوم التالي عندما تجتمع النسوة لتحولن رعب الليلة الماضية إلى قصص مسلية، كانت ماجدة تفتخر بهذه القدرة الخارقة لابنتها. لفترة ما، ظلت الأم تعتقد أن هذه الطفلة التي ولدت بين أصوات الرصاص والمدافع قد اعتادتها وألفتها فما عادت تخشاها ولا تسطيع إيقاظها، لكن منيرة أصبحت تصرخ في النهار عندما يضحك بقية الأطفال وتحدق بالسماء باكية رغم أن موعد القصف اليومي لم يبدأ بعد.
بعد عدة اشهر، تأكدت الأم من مخاوفها التي نبتت يوما بعد يوم فيما ابنتها تكبر دون أن تخرج الحروف من فمها. منيرة صماء، قال الطبيب أنها غالبا قد أصيبت بالصمم يوم النزوح الكبير، عندما ارتفعت حرارتها ولم تحصل على تدخل طبي عاجل.
لم تسمع منيرة صوت القنبلة التي قتلت أخاها واثنين من أولاد عمها، لم تسمع صوت القذائف فوق رأسها عندما نزحت عائلتها مجدداً إلى بلدة في أطراف إدلب، لم تسمع صوت الطائرة التي حلقت لساعة كاملة فوق مخيمهم فقرر أبوها أن يرحل بهم إلى تركيا حيث سيسمع الجميع صوت الرصاص من بنادق حرس الحدود إلا منيرة التي لن تسمع أيضا نشرات الأخبار وخطب زعماء العالم ووعودهم ومهاترات السياسيين وبنود الاتفاقيات غير المنفذة لكن منيرة ستروي لك كل شيء عن هذه الحرب.
تعيش اليوم منيرة في مدينة شيربروك بكندا وهي تتعلم لغة الإشارة الفرنسية بسرعة كبيرة حيث لم يتح لها أن تتعلم لغة الإشارة العربية إلا بعض الكلمات القليلة التي حاولت أمها تعليمها لها. المشكلة الوحيدة أن الموضوع الذي ترغب بالتحدث به طول الوقت هو الحرب ورحلة اللجوء، مما يضع معلميها في ورطة، ليس فقط لحساسية الموضوع بالنسبة للأطفال الآخرين بل أيضاً، لأنهم لا يعرفون كثير من الكلمات في لغة الإشارة الفرنسية التي تستطيع وصف أهوال الحرب.

مفردات للحرب
قد تجد منيرة ضالتها اللغوية على صفحة مركز ايماء على الفيسبوك حيث يبتكر عدة شباب من الصم والبكم فى سوريا، إشارات جديدة للتحدث عن الحرب أو للتعبير عن مشاعرهم ومعاناتهم التى أصبحت مضاعفة “الإصبعين على راحة اليد كلمة الحكومة، نسبة إلى النجمتين الموجودتين على العلم السوري، أما وضع ثلاثة اصابع على راحة اليد فهذا يشير إلى المعارضة نسبة إلى النجوم الثلاث الموجودة على علمها، أما وضع اليدين على العينين فيعنى الخطف”، كما تشرح نائبة المركز وصال الأحدب لوكالة الصحافة الفرنسية وتضيف “كان علينا ابتكار إشارات كلمات لم تكن موجودة فى لغة الصم والبكم فى سوريا ليتمكنوا من التواصل وتبادل المعلومات أو المشاعر حول سريان العنف”.ويروي رياض حمص الذي يشارك في ابتكار هذه المفردات الجديدة، تجربة مأساوية عاشها جراء الحرب، حين قتلت والدته وشقيقه وشقيقته برصاص قناصة على مرأى من عينيه من دون ان يدرك ماذا يحصل، ويقول “بما انني لا اسمع لم اكن ادرك ما يحدث حولي، شاهدت امي تهوي امامي ثم تلاها اولاد عمي. لكن عندما شاهدت رأس شقيقتي ينفجر امامي، ادركت حينها أنهم يطلقون النار علينا”.
الإصبعين على راحة اليد كلمة الحكومة، نسبة إلى النجمتين الموجودتين على العلم السوري، أما وضع ثلاثة اصابع على راحة اليد فهذا يشير إلى المعارضة نسبة إلى النجوم الثلاث الموجودة على علمها، أما وضع اليدين على العينين فيعنى الخطف
من رأى ليس كمن سمع
وعانى ذوو الإعاقة السمعية من تحديات خاصة، فعدم سماع أصوات المعارك لم يكن نعمة بالمطلق وعدم الإحساس بالرعب الناتج عن أصوات الانفجارات والصواريخ ودوي صفارات الإنذار هو بذات الوقت مشكلة أوقعت كثيرين من الصم بمخاطر كادت تودي بحياتهم.
بما أنه أصم، لم يسمع محمد الكواريت الطلقة النارية تخترق رأسه لكنه عندما شعر بألم مبرح ورأى عنقه ينزف دماً، علم الفتى الذي كان يبلغ من العمر 15 عاماً أنه أصيب برصاصة. بحسب تقرير للمفوضية لشؤون اللاجئين فإن هذه الرصاصة بشكل خاص، تسببت بانتقال محمد وعائلته – المؤلفة من والدٍ وثلاثة أشقاء صمّ أيضاً- من مدينة الحارّة، مسقط رأسه في جنوب سوريا إلى سهل البقاع في لبنان، وأخيراً، وجد أفراد العائلة الأمان في كندا كلاجئين في مدينة كالغاري. كان على محمد وأخوته تعلم لغة الإشارة المطابقة الانكليزية ليستطيع تقديم شهادة الثانوية لأن لغة الإشارة العربية التي يتقنونها لا يفهما أحد في مدينتهم الجديدة.

مسافات ولغات
بالمقابل، لا يفكر وسيم الحاج في تعلم لغة الإشارة، فهو يتواصل بالكتابة بعد أن انفجر لغم بالقرب منه فأفقده حاسة السمع. يشعر أنه معلق بين عالمين ولغتين وزمنين. يقرأ في أمسية للقراءات المسرحية ببيروت “لقد تجمد الزمن في تلك اللحظة، لست كباقي الصم الذين يعيشون الصمت. صوت الانفجار يستمر، لا يتوقف، لا يخفت. لست أيضاُ كمن يسمعون، لست واثقا حتى أني أتذكر صوت أمي”. لم يسمع وسيم التصفيق في نهاية الأمسية وكان ينظر باستغراب إلى مترجمة لغة الإشارة التي تحرك يديها بإشارات سريعة لا يفهمها كي تترجم لبضعة شباب من الصم والبكم ما كان يقوله. لم يصفق هؤلاء بل لوحوا بأيديهم، وهي الطريقة المتبعة للصم والبكم في الهتاف.
على بقعة بعيدة من الكرة الأرضية، فاز الطفل السوري محمد عودة الذي بالمركز الأول في المسابقة الوطنية للقراءة بلغة الإشارة الهولندية لعام 2022 بعد أن تنافس مع الطلاب القادمين من مدارس للصم من جميع أرجاء هولندا في سرد قصصهم المفضلة، بحسب موقع “DOOF” الهولندي.
يوجد حوالي 70 لغة إشارى معتمدة في العالم، والصم السوريون الموزعون في أرجاء الأرض سيتكلمون عشرات من هذه اللغات المختلفة. قد يقرؤون الشفاه أو يكنبون أفكارهم على قصاصات قصيرة، لكن ما يجمعهم هو ذاكرة صامتة عن الحرب، الموت والنجاة. ذاكرة أقل ضجيجاً ولعلها الأكثر صدقاً.
خلال عشر سنوات من القتال في سورية ازدادت أعداد الأطفال الذين يعانون من إعاقات سمعية، وازدادت معها الحاجة لمراكز الرعاية والتعليم الخاصة بتعليم لغة الإشارة

تعليم لغة الإشارة لتحقيق الدمج
يبلغ عدد الصم والبكم في سوريا 20 ألف شخص حسب إحصاءات حكومية لكن الأمم المتحدة تقدر أن عددهم يبلغ أربعة أضعاف هذا الرقم. فقد سبب العنف الهائل زيادة عدد الإصابات السمعية بسبب عصف الانفجارات.تعليم لغة الإشارة في معهد دمشق
مع ذلك لا توجد حتى الآن أرقام موثقة لعدد الصم الفعليين ولا نسبة الزيادة التي طرأت عليهم. وترصد آخر إحصائية عن المكتب المركزي للإحصاء عام 2018 وجود 16802 أصم في سورية، منهم 3480 في دمشق وريفها. على أن “مؤشرات غير رسمية تقدر الرقم فوق ذلك بكثير، في غياب آليات إحصاء ومسوح متقدمة”. ويقول مهتمون إن ظروف الحرب التي تمر بها سوريا، منذ سنوات، وتأثيرها على واقع الحياة بشكل عام، أثر سلباً على فئة الصم لكن، يؤكد هؤلاء أن معاناة تلك الفئة من التهميش كانت موجودة حتى قبل عام 2011، ثم أتت الحرب لتزيد من صعوبة أوضاعهم وانعدام السبل التي تساعدهم على الاندماج في مجتمعهم والاستفادة من طاقاتهم.
يعاني معظم هؤلاء، إضافة لإعاقتهم، من صعوبات كبيرة في التواصل مع محيطهم، ابتداءً بالمنزل مروراً بالمدرسة والجامعة، ووصولاً لأماكن العمل، كما يندر حصولهم على مستوى تعليمي وفرص عمل جيدة، نتيجة عدم تكيّف المناهج السورية مع احتياجاتهم، إضافة لقلة عدد مترجمي لغة الإشارة على مستوى البلاد.
فمن الملاحظ انخفاض مستوى تعليم الطلاب الصم في سوريا ويعود ذلك إلى عدم وجود مناهج متخصصة لهذه الفئة، وتطبيق نفس المنهاج العام داخل معاهد الصم، دون تعديل. فسورية من “الدول العربية القليلة التي لم تضع حتى الآن منهاجا خاصا بالصم” ولم تقم “بتعديل المناهج التدريسية بشكل يناسب ويوائم الطلاب ذوي الإعاقة السمعية” كما لم يتم حتى الآن استكمال مشروع تطوير القاموس الإشاري محليا “لأن الجزء الأول من القاموس الإشاري العالمي المعتمد في سورية يتضمن إشارة لـ 1270 كلمة فقط ولا تفي بالغرض”. فضلاً على عدم وجود قواميس متخصصة حسب الاختصاصات الجامعية وهو الأمر الذي يحد بشكل كبير فرص وصول الصم والبكمإلى الدراسة الجامعية.
ومثل أي فئة أخرى، فإن التعلم تمثل أهمية قصوى بالنسبة للصم لأن التعليم يعتبر هو الوسيلة الأمثل للاندماج الاجتماعي ولتحقيق التواصل بين فئات المجتمع، وتعد لغة الإشارة مفتاح فك الأمية للصم والبكم وهذه اللغة الآن في معظم مناطق العالم في طور تطوير مستمر وحققت تطورا مشهودا من حيث مفرداتها وأيضا منهجياتها وبالتالي وهناك مشاريع لتطويرها على نحو متزايد لتصبح لغة مستقلة فلغة الإشارة يمكن اعتبارها أنها اللغة الأم واللغةَ الطبيعية الأولى بالنسبة للأصم قبل اللغة المنطوقة.
ويعتبر تعلم لغة الإشارة مفتاح أساسي لدمج ذووي الإعاقة السمعية في المجتمع وزيادة فرصهم في التعليم والعمل، لكن هذا يبدو صعب المنال لكثير منهم. فخلال عشر سنوات من القتال في سورية ازدادت أعداد الأطفال الذين يعانون من إعاقات سمعية، وازدادت معها الحاجة لمراكز الرعاية والتعليم الخاصة بتعليم لغة الإشارة، ولكن واقع الحال مغاير تماماً، إذ تُعاني معظم المدن والمناطق السورية من ندرة المدارس والمراكز المعنية بتعليم ودمج الصم والبكم.
حسب المكتب السوري للإحصاء يوجد تسعة معاهد حكومية متخصصة في تعليم الصم والبكم عبر سورية، بلغ عدد طلابهم 577 طالب عام 2020، وهو عدد متواضع جداً بالمقارنة مع الأعداد الفعلية للصم والبكم الذين يحتاجون مدارس متخصصة. فيما يبدو الوضع في مناطق شمال سوريا أشد قتامة، حيث يوجد مدرسة واحدة في الرقة في المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية ضمت 120 طالب وطالبة عند افتتاحها عام 2020 حسب وكالة ANHA. وهناك مدرسة واحدة في إدلب تضم 40 طالب فقط تابعة للمعارضة السورية، وهناك تجربة قصيرة لمعهد لتعليم لغة الإشارة في درعا لم يكتب لها النجاح.
الصوت المدني بلغة الإشارة
في مقابل محدودية العمل الحكومي، يبرز دور المجتمع المدني الذي لم يتردد تاريخيا في مد يده لذوي الإعاقة. وشكل العمل الأهلي في سورية الخطوة الأولى على طريق تطوير لغة الإشارة الخاصة بذوي الحاجات السمعية “الصم”، ففي “دمشق” تأسست أول جمعية في العام /1960/ في دمشق لرعاية الصم والبكم وهي من أقدم الجمعيات في المنطقة العربية، وتأسيس في دمشق عام (1972) “”الاتحاد العربي للهيئات العاملة في رعاية الصم” ويعود الفضل لجهود شخصية لعدد من المتطوعين السوريين ساهموا أولاً في إعداد قاموس اشاري سوري موحد وبعدها بإصدار قاموس عربي موحد في العام /2000/. كما أن لغة الإشارة المطابقة للعربية طوَّرها خبير لغة الإشارة “عبد الكريم عطايا” واعتمدتها (جمعية إيماء لتعليم الصمّ) في دمشق (EMAA 2016).
هناك اليوم عدد من الجمعيات الأهلية والمبادرات المدنية لتعليم لغة الإشارة، ورغم الجهود الجبارة للمتطوعين، فإن الحاجات الحقيقية على أرض الواقع تحتاج تدخلات كبيرة غير تجميلية وذات أهداف بعيدة المدى.