منصة إرادة- مياس سلمان
شهدت محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة أعمال عنف طائفية مروعة بين 6 و10 آذار 2025. اندلع العنف بعد هجمات أولية شنها موالون للنظام السابق ضد قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة. رداً على ذلك، شنت القوات الحكومية هجمات مضادة تصاعدت إلى عمليات قتل انتقامية ومجازر واسعة استهدفت الطائفة العلوية بشكل خاص.
استجابة لتصاعد العنف والدعوات المحلية والدولية للمساءلة، أعلنت الحكومة السورية المؤقتة تشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق في 9 آذار 2025. كُلفت اللجنة بتحديد المسؤولين عن عمليات القتل الجماعي، على أن تقدم تقريرها في غضون 30 يوماً، تم تمديدها بعد ذلك ثلاثة أشهر.
بقي السؤال خلال هذه الفترة: هل تشكيل اللجنة سيكون محاولة للتحكم في السرد، وتقديم رواية تناسب السلطة وتبرئ المتورطين من عناصرها وقياداتها، أم بهدف إظهار الالتزام بالعدالة والابتعاد عن إرث الإنكار والإفلات من العقاب الذي ميز النظام الأسدي؟
بعد طول انتظار وبعد أكثر من أربعة أشهر على مجازر الساحل المؤسفة، صدر تقرير (لجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل) والتي ذهب ضحيتها ما يقارب الألف وسبعمائة قتيل. ورغم الانتقادات التي تعرض لها التقرير من جهات ربما كانت تنتظر نتائج أفضل وشككت بمدى استقلالية عمل اللجنة وعدم تبعيتها للسلطة السياسية، سنحاول تقييم عمل التقرير من منطلق حقوقي:
أبرز نتائج اللجنة
1,426
قتيلاً تم التحقق منهم
غالبيتهم من المدنيين، بينهم 90 امرأة.
238
قتيلاً من الجيش والأمن
سقطوا في الهجمات الأولية.
298
مشتبهاً بهم
تم تحديد هوياتهم وإحالة أسمائهم للنيابة.
37
شخصاً تم اعتقالهم
بناءً على نتائج التحقيق الأولية.
الأرقام الناقصة: الضحايا الموثقون
بدأت اللجنة تقريرها بالقول إن الأحداث بدأت في السادس من آذار الماضي عندما قام من أسمتهم (فلول النظام) بالهجوم على قوات الأمن والجيش بمختلف أنواع الأسلحة، والهدف الرئيسي لهذه العملية حسب التقرير هو السيطرة على الساحل وإقامة (دولة علوية). حسب التقرير، تحركت على إثر ذلك أعداد كبيرة من فصائل الجيش (وفصائل الفزعات غير المنظمة) ليتجاوز عدد المهاجمين 200 ألف مهاجم بشكل غير منظم وعشوائي، مما تسبب حسب اللجنة بحدوث “انتهاكات جسيمة”، شملت القتل، والقتل العمد، والسلب، وتخريب المنازل وحرقها، والتعذيب، والشتائم الطائفية. قالت اللجنة إنها تحققت من مقتل 1426 شخصاً، بينهم 90 امرأة، وغالبيتهم من المدنيين. كما أقر التقرير بوجود 20 شخصاً في عداد المفقودين. كما أفادت اللجنة بمقتل 238 فرداً من عناصر الجيش وقوات الأمن. وأقرت اللجنة بـ “الخسائر البشرية الكارثية” الناتجة عن الهجمات.
كان من اللافت أن اللجنة لم تتطرق لأعداد الضحايا من الأطفال أو ذوي الإعاقة أو كبار السن، ولم يتم رسم خريطة واضحة لأماكن حدوث الانتهاكات كأسماء الأحياء والقرى والترتيب الزمني للأحداث.
هذا التقرير لم يكن التقرير الحقوقي الأول حول مجازر الساحل، فقد سبقته تقارير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والمرصد السوري لحقوق الإنسان، والشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR)، ومركز الإعلام وحرية التعبير، إضافة إلى تقرير رويترز الشهير. وإذا كانت معظم هذه التقارير تتقاطع بأرقام متشابهة، كان من المنتظر أن يكون تقرير لجنة تقصي الحقائق السورية أكثر تفصيلاً ويأتي بمعلومات جديدة، حيث إنها الجهة الوحيدة العاملة على الأرض والتي قامت حسب اللجنة نفسها بالاستماع إلى أكثر من 900 شهادة وأكثر من 30 زيارة ميدانية. وبالتالي، كانت تستطيع الوصول إلى معلومات أكثر تفصيلاً وخاصة أسماء وجنس وعمر الضحايا وخريطة الانتهاكات ومواقعها بالضبط، مما كان ليعطي مصداقية للجنة ويمكن الأهالي من التأكد أن قصصهم وشهاداتهم موجودة وأنه جرى الاعتراف بضحاياهم، ويمكنهم من التأكد من أنه تم إحصاء جميع القتلى أو إضافة أسماء جديدة إذا تم معرفة مصيرها. كذلك، ذكر ضحايا الأمن العام وأماكن قتلهم والكيفية التي قتلوا بها كان ليعطي الرأي العام صورة أوضح عما حدث عشية السادس من آذار ويضع حداً نهائياً للمعلومات المضللة والأرقام المتباينة، فالبعض ما زال يشكك أن عددهم أقل من 238 والبعض يقول إنها أكثر بكثير، لهذا كان ذكر أسماء جميع الضحايا وظروف قتلهم ضرورياً لأنه أيضاً يعطي قيمة لهول وفجاعة ما حدث فيصبحون ذكرى ورمزاً كي لا تتكرر المجازر وليسوا مجرد أرقام.
من الملاحظ أيضاً، أن اللجنة استخدمت كلمة ((قتلى)) للإشارة على أعداد الضحايا دون تمييز بين قوات الأمن والجيش والمدنيين وكان الأجدر بها أن تستخدم مصطلح (ضحايا) للتحدث عن الذين قُتلوا دون ذنب أو تصف الجميع بالضحايا، وهو المصطلح الأصح والأشمل.
المشتبه بهم المحددون والمغفلون
ذكرت اللجنة أنها حددت هوية 298 فرداً “بأسمائهم الصريحة” كمشتبه بهم في الانتهاكات، مشيرة إلى أن هذا الرقم أولي. وقالت إنها أحالت أسماء “المشتبه بهم” إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، مما أدى إلى اعتقال 37 شخصاً. وقد بررت اللجنة عدم الكشف عن أسماء المشتبه بهم بضمان عدم هروبهم، وبأن سبب بقاء هوياتهم مغفلة لأنهم ما زالوا متهمين والقضاء من سيثبت إدانتهم. لكن عدم عرض الأسماء مقروناً بذكر الوقائع والأدلة يؤدي إلى ضياع الحقوق وضعف المصداقية، فكيف للأهالي أن يرفعوا دعاوى شخصية ويطالبوا بالتعويض ويتأكدوا أنه تم وضع المتهم بالسجن ويخضع لعقوبة عادلة خاصة بعد انتشار العديد من مقاطع الفيديو لأشخاص يقاتلون في السويداء كانوا قد شاركوا ووثقوا جرائمهم في أحداث الساحل، مما يجعل مصداقية اللجنة والقضاء على المحك؟
وقد أشارت اللجنة إلى أن بعض الجناة كانوا أفراداً من الفصائل المسلحة، بينما تحرك آخرون بشكل فردي أو في مجموعات شبه مدنية مسلحة، لكنها لم تشر إلى توزيع المتهمين وإلى عدد المتورطين من أفراد قوات الأمن من بينهم، كما أن اللجنة أغلقت الباب تماماً أمام التحقيق مع المسؤولين الحكوميين والقادة العسكريين والشخصيات الأخرى المشتبه في مسؤوليتهم الجنائية. وكان من الواضح أن اللجنة تحصر اتهاماتها بعدد محدد من المرتكبين على المستويات الأدنى، دون معالجة المسؤولية القيادية المحتملة التي سمحت أو حتى سهلت هذه الفظائع.
طبيعة الانتهاكات واستنتاجات اللجنة
كان أحد الاستنتاجات الرئيسية والمثيرة للجدل للجنة هو أن أعمال العنف والقتل التي استهدفت العلويين في منطقة الساحل لم تكن بدافع طائفي، وقالت اللجنة إن الدوافع كانت خلفيتها (ثأرية وليست إيديولوجية).
وتتناقض هذه الخلاصة بشكل صارخ مع الوقائع على الأرض التي تشير إلى أن جميع من قتلوا من المدنيين كانوا من الطائفة العلوية، رغم أن الساحل يضم طوائف متنوعة لم تتعرض لعمليات قتل جماعي، كما أن كثيراً من الفيديوهات والشهادات نقلت كيف كان يتم السؤال عن طائفة الضحايا قبل تصفيتهم؟
كذلك، توصلت اللجنة إلى أن هذه الانتهاكات واسعة النطاق “لم تكن ممنهجة”. بررت اللجنة هذا الاستنتاج بأن إفادات الشهود تشير إلى السلوك المتباين للمجموعات والأفراد، ففيما ارتكب بعضهم فظاعات مروعة، تعامل بعضهم باحترام، مما دفع اللجنة للاعتقاد أن الانتهاكات رغم اتساعها وحجمها لم تكن (منظمة)، كما أن بعض الخارجين عن القانون استغلوا الأحداث والفوضى لتشكيل عصابات أشرار هدفها السرقة وجمع الأموال.
ولكن لم تتطرق اللجنة إلى من أين أتت الأعداد الضخمة؟ وهل حاولت قوات وزارة الدفاع التصدي لها ومنعها؟ كما لم يشر التقرير إلى وجود أي مسؤوليات على قيادات بالجيش أو الهيكل الأمني أو من أين أتت الأوامر باقتحام المناطق؟ أو حتى من الذي سمح بوقوع هذه الفظائع؟
واكتفت اللجنة بالقول إن أغلب المجازر وقعت في القرى التي تقع على الطرق الرئيسية لوصول الفصائل، وإن كان ذلك صحيحاً بما حصل في بانياس وجبلة والرصافة، فماذا عن المجازر التي حصلت في قرى بعيدة عن الطرق الرئيسية مثل الحطانية وحمام واصل في القدموس وقرية قبو العواميد في ريف جبلة التي شهدت مجازر بحق عائلة أم أيمن التي حرست جثث أبنائها المدنيين لثلاثة أيام؟
ويرى النقاد أن التركيز فقط على الجناة الأفراد “ضروري، ولكنه غير كاف” لمعالجة “الديناميكيات المؤسسية” أو “الهيكل الأمني الأوسع” الذي ساهم في ارتكاب الانتهاكات أو على الأقل فشل في منعها. هذا التناقض الجوهري يمثل نقطة أساسية، لأنها تخلي مسؤولية القوات الحكومية كمؤسسة. وسواء كان ذلك محاولة متعمدة للتقليل من الطبيعة الحقيقية للانتهاكات أو بهدف تجنب إثارة نقاش طائفي حساس سياسياً، فإن هذا يقوض حيادية التقرير وقدرته على أن يكون أساساً موثوقاً للعدالة.
النطاق والولاية
كانت ولاية اللجنة المعلنة تغطي ثلاثة أيام هي 7، 8، 9 آذار فقط في منطقة الساحل فقط، وقد وضع هذا حدوداً للحقائق التي يمكن التوصل إليها، خاصة من حيث ربط الأحداث وتصاعدها، على الرغم من وجود أدلة على أن الانتهاكات امتدت إلى ما بعد هذه التواريخ وإلى مناطق أخرى.
وكمثال، نفت اللجنة عملية خطف النساء أثناء الأحداث وقالت لم تصادف في الشهادات أي حالة خطف، ورداً على أسئلة الصحفيين زعمت اللجنة أن عمليات خطف النساء بعد ذلك كانت تتم لأسباب اجتماعية أو جنائية ولا ترتبط بالأحداث. رغم أن ظاهرة خطف النساء ظهرت بعد أحداث الساحل تماماً، حسب العديد من التقارير الصحفية والحقوقية، لكن ولاية اللجنة ونطاق عملها لا يسمح لها بالتحقيق خارج المدة الزمنية الأساسية، حتى لو كانت الأحداث الجرمية نتيجة مباشرة لها.
كما اقتصرت ولاية اللجنة على منطقة الساحل، مستبعدة أعمال العنف الطائفي ذات الصلة التي وقعت في مناطق أخرى، مثل السويداء. وذكر رئيس اللجنة صراحة أن عنف السويداء كان “خارج اختصاص” لجنته.
كذلك، لا يبدو أن اللجنة حققت في التحريض على العنف الذي كان بلا شك أحد أسباب تصاعد الانتهاكات، فقد تلوثت الحقيقة بشكل كبير بالحسابات الكاذبة والأدلة المضللة وخطاب الكراهية الذي لم يكن مجرد أثر جانبي للعنف، بل كان مكوناً نشطاً في الصراع.
هذه القيود الزمنية والجغرافية، وإن كانت مفهومة بهدف إدارة حجم التحقيقات والتوصل لنتائج واضحة محددة النطاق، لكنها تشير أيضاً إلى الحاجة الملحة في التحقيقات القادمة لمعالجة الطبيعة المترابطة للانتهاكات خاصة من حيث محفزاتها الطائفية من جهة، والتحريض الإعلامي من جهة أخرى.
أقرت الحكومة بوقوع “انتهاكات جسيمة” وخسائر بشرية كارثية، وهو بالتأكيد “اعتراف رسمي نادر” بحجم العنف، مما يميزه عن حالة الإنكار والتهرب من المسؤولية التي كانت القاعدة الأساسية التي بنى النظام الأسدي عليها حكمه وعلاقته مع المواطنين، إلا أن النقص في الشفافية، لا سيما عدم نشر التقرير بالكامل ومنهجيته، وحجب أسماء المشتبه بهم، يقوض مصداقية التحقيق في وقت تتآكل الثقة في المؤسسات بشكل كبير خاصة في منطقة الساحل.
الشيء الإيجابي الذي يمكن البناء عليه أنه في الأيام الأخيرة تناقصت مشاهد القتل والاختطاف في الساحل، ولكن أحداث السويداء الأخيرة أثبتت هشاشة الوضع الأمني والسلم الأهلي حيث يمكن أن تنفجر الأوضاع في أي منطقة بشكل كبير خاصة مع انتشار خطاب التحريض والكراهية بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعكس مقدار الفجوة العميقة والانقسام الكبير الذي يعيشه الشارع السوري.