الإرادة

في زحمة الجنون الطائفي: داريا ليست استثناءً يثبت القاعدة

منصة إرادة:

تسجيل صوتي غير معروف المصدر يهين دين الإسلام، كان كافياً لتشتعل سوريا، وتعرض الدروز لمضايقات في المدينة الجامعية في حمص، تبعها دعوات ومظاهرات تدعو لقتلهم، ومن ثم هجوم على جرمانا، من قبل فصائل مسلحة، تابعة للسلطة بشكل أو بآخر. ثم اندلعت صدامات صحنايا، وهذه المرة عبر مسلحين دروز هاجموا الأمن العام. ردت الدولة باستنفار كامل للسيطرة على البلدة وتحييد “السلاح الدرزي”. في الجنوب كانت الصدامات تبدأ وتنطفئ، مرة بين البدو والدروز ومرة بين الحوارنة والدروز. 

استنفر كل طرف لتقديم روايته، مدعوماً بحملات تخوين وترهيب بالغة القسوة. هدأ القتال، واشتد التمترس. 

بين ضرورة “حصر السلاح بيد الدولة” و”طلب الحماية الدولية”، تكاد “سوريا الثورة” تخسر مصداقيتها أمام نفسها. وسط حفلة من الجنون، يظهر صوت مدينة داريا، مختلفاً لكنه ثابتٌ ولا يرتجف.

المدينة التي سميت بأيقونة الثورة. عملت خلال يومين من الاشتباكات، على خطاب تهدئة وتحرك أهلها لتقديم الحماية للمدنيين الذين فروا من المعارك في صحنايا. كما استقبلت عدداً من الجرحى والمصابين، واحتضنت مفاوضات لوقف إطلاق النار.

لم ينس كثير من أهالي داريا أن صحنايا وأشرفيتها كانتا رئتي داريا خلال الحصار واستقبلت بيوتهما ثوار وأهالي داريا طيلة سنوات، كما كتب إياد شربتجي، ولا أنهما كانتا محطتي تهريب شباب الميدان ودوما إلى الأردن أيام الثورة، كما قدم وحيد تمو شهادته.

إيناس مطر، أخت شهيد داريا غياث مطر، كتبت “أنا واهلي عشنا بكرامة ببيوت الدروز أهل السويداء، أكلنا من خيرهم، تدفينا بمازوتهم، وتعالجنا بكرمهم، كله كان مجانياً ومن طيب خاطر وبلا منية لأنهم أهل معروف وعندهم شهامة ونخوة وكرم … وقت حتى القريبين خافوا يرفعوا السماعة ويسألوا عنّا…. حاجة هالتعميم الأعمى، لا تغطّوا الاجرام والخيانة براية الدين، ولا تخلوا الطائفية تسرق منكم ضميركم”.

صوت ايناس مطر مسموع وسط الضجيج

في بداية التجييش الطائفي الذي حدث بعد انتشار التسجيل الصوتي المشبوه، تجمع كثير من الحشود الغاضبة والمنفلتة في كثير من البلدات. الشعارات والهتافات التي قيلت تحمل كماً كبيراً من الكراهية والعنف والتحريض العلني على القتل. اتخذت الإدارة المدنية لمدينة داريا قراراً منفرداً داعية الأهالي إلى عدم تنظيم أي تظاهرات داخل المدينة، “حفاظاً على الأمن العام وسلامة الجميع” مضيفة “نُذكّر بأن نصرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تتحقق باتباع سنّته، والاقتداء بهديه، ونشر قيمه السامية بالحكمة والسكينة، بعيداً عن أي تصرّفات قد تُستغل بشكل يسيء للقضية أو يعرّض استقرار المدينة للخطر”.

هذا القرار المباشر والشجاع، ربما كان سيضع حداً كبيراً للعنف الطائفي الذي حدث في الأيام الأربعة الأخيرة، فيما لو تم اتخاذه على مستوى الحكومة. كان على الأقل سيجعل السلطة الجديدة في دمشق تبدو كدولة وليس كطرف، وسيجعل سوريا تبدو كوطن لجميع مكوناته وليس كساحة اقتتال للداخل والخارج.

واحتضنت داريا يوم أمس الخميس اجتماعاً موسعاً بين مشايخ عقل الموحدين الدروز مع مسؤولين سوريين وممثلين عن الأمن العام بهدف إيجاد حل سريع للأزمة في أشرفية صحنايا، وبحضور محافظي ريف دمشق، والسويداء، والقنيطرة وعدد من الوجهاء والشخصيات الاجتماعية، جرى التوصل إلى اتفاق مبدئي يقضي بوقف إطلاق النار في جرمانا وأشرفية صحنايا بريف دمشق.

يبدو صوت داريا وحيداً، لكنه ليس كذلك. صوت الكراهية بطبيعته عال. ووسط السعار، يفضل العقلاء أن يحموا ما تبقى من إنسانيتهم. يميل البشر لنزع الإنسانية عن البشر الذين يقاتلونهم كي يجعلوا عملية القتل أسهل. إنها عملية احتيال على الضمير. لكن القاعدة أن الإنسان لن يستطيع رشوة ضميره مطولاً.

الشهيد محمد نكاش

“دم السوري على السوري حرام”، قالها مفتي الجمهورية الشيخ أسامة الرفاعي. لم يمنع خطابه سقوط 74 قتيلاً حتى هذه اللحظة. ضمن هذه القائمة الطويلة من الضحايا، هناك قصتان. الأولى للشاب محمد نكّاش، والده الشهيد محيي الدين الذي استشهد بقصف للنظام على داريا، وله شقيقان فهد وفادي اللذان استُشهدا خلال الثورة السورية. سقط مع رفاق له أثناء الهجوم على حاجز للأمن العام

أما الثاني فهو يزن بالي، أحد أبناء صلخد بريف السويداء، والذي خرج من سجن صيدنايا يوم سقوط نظام الأسد، بعد أن قضى ست سنوات في المعتقلات. سقط على طريق دمشق السويداء إلى جانب عدد من الشباب الذين كانوا برفقته.

في مرآة لا يرغب البعض في النظر لها.. هاتان قصتان عن مجموعتين ورأيين وطرفين، ولكنهما عن سوريا نفسها. في النهاية، كل طرف سينعي قتلاه، وستنعي سوريا شهداءها.

يزن بالي