الإرادة

فيلم قناع الغوص والفراشة: الحبس داخل الجسد

خليل سرحيل

سبق لنا اختبرنا جميعنا شعور الوحدة، لكن شعور الوحدة له أنواع كثيرة، ويعطي أحاسيس مختلفة، فهنالك من يكون وحيداً في منزله، أو يكون وحيداً في زنزانةٍ منفردة، أو في حتى في فندق ذهب إليه بغرض الترفيه.

وهناك أيضاً من هو محبوس داخل جسده… وحيداً مع ذاته.

يدور فيلم قناع الغوص والفراشة حول الصحفي جان الذي أصيب فجأة ومن دون سابق إنذار جراء مرض نادر تركه في غيبوبة دامت عشرين يوماً، ليستفيق بعدها إنساناً آخر، وليتحول جان من رئيس تحرير مجلة كبيرة إلى شخص يحاول التعرف على ذاته الجديدة إثر اصابته بمتلازمة المنحبس. تبدأ رحلة جان للتأقلم مع وضعه الجديد عبر ما بقي حياً في جسده، وهو جفن عينه التي كانت وسيلته للتعبير ونافذته الوحيدة على العالم أو ما بقي من عالمه.

قناع الغوص والفراشة (بالفرنسية: Le Scaphandre et le Papillon) هو فيلم فرنسي أخرجه جوليان شنابل وكتبه رونالد هاروود . يستند الفيلم إلى مذكرات الصحفي الفرنسي جان دومينيك بوبي.

رشح لجائزة الأوسكار للعام 2007. وفاز شنابل بجائزة أفضل مخرج عن الفيلم في مهرجان كان السينمائي 2007. كما فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم ناطق بلغة اجنبية، ورشح رونالد هاروود للحصول على جائزة أفضل سيناريو لجائزة الكرة الذهبية.

إنها نظرة من الداخل السحيق، حيث لا يوجد إلا صوت الإنسان الواحد. يأخذنا جان لنرى بعينه، يخبرنا كل شيء، ويجبرنا بأسلوبه الخاص أن نرافقه في رحلته الموحشة، فنشاركه بما نحتمل جزءاً من تفكيره وتمعنه بكل قضاياه العالقة القديمة منها والحديثة، ليضع المشاهد في مكان يصعب تعريفه. هل المشاهد داخل القناع أم خارجه؟ هل يمكن أن نعيش خارج ذواتنا أحراراً؟ هل يمكن أن نعيش داخل ذواتنا فقط؟

هذه القضايا التي يستحضرها جان، هي حياته بالكامل. يعالجها برفة جفن عينه كالأبوة والحب والمسؤولية تجاه أبنائه، وتترجمها للعالم معالجة للنطق تتواصل مع جان بلغة خاصة.

هذه القصة-الفيلم التي يرويها بطلها برفة عينه المحلقة كجناح فراشة، تنتقل بين بطل الماضي الغارق بالحب والعمل والنجاح والجموح، وبطل الحاضر الراغب بالموت، المحبوس داخل جسده الثقيل كقناع غوص، وهو يجلس أمام أكبر محيطات الأرض على شرفة المشفى. لا يستطيع البحر ابتلاعه، ولا تستطيع الذاكرة لفظه خارجها.

تأتي المشاهد سهلة ممتنعة، يرويها جان بأسلوب متفرد، لا يخلو من الفكاهة والكوميديا، ليثبت جوهر كينونة الإنسان الذي يبقى بكل أسراره وتناقضاته وجماله وقبحه، حتى لو لم يبق في الجسد سوى جفن يرف، وصوت لم يخرج من حنجرته أبداً.

تأتي الصورة المشهدية في الفيلم من عين البطل أولاً بانطباعٍ جاد وقوي وحاد، كوضع البطل الصحي، يخترق المشاعر ليضعنا نحن المشاهدين أمام الحقيقة بلا زيفٍ أو تجميل. يفتتح الفيلم وكأننا داخل عقل بوبي، الكاميرا هي عينه اليسرى، الجهاز الوحيد العامل في جسمه المتخشب، نرى معه ونسمع أفكاره ونتحرك كما يتحرك تتطور الصورة لتخرج لاحقاً من عين البطل إلى العالم الأوسع، عندما يقرر النجاة ويحارب من أجل البقاء، ليتابع طريقه ويقرر كتابة ما حصل عبر أكثر من 200000 ألف رفة جفن. لكن، ولسبب ما ستغلق الصورة في نهاية الفيلم على اللون الأبيض المزرق، ويبقى من حق كل مشاهد أن يفهم النهاية حسب جوهره الفريد وتجربته الخاصة.

إنه فيلم ساحر يعطي مثالاً واضحاً عن أن وعي الإنسان تجاه نفسه وتفاعله مع أحداث حياته من الممكن أن يصل به إلى أبعد الأمكنة وحتى الأزمنة.

لقد عرف الطب عبر العصور الأمراض بشكل علمي وليس أكثر، لكن فيلم قناع الغوص يشرح عن المرض من داخل النفس البشرية التي نملكها جميعاً من غير مصطلحات طبية أو أدوية، عبر جفن يهمس وصوت يريد الصراخ ولا يستطيع… والكثير الكثير من المشاعر التي لن تعرف الصورة والصوت طريقاً إليها.

الرواية الأصلية

تعرّض جان لجلطة دماغيّة أصابته بشلل تام عدا عينه اليسرى. حالة نادرة الحدوث تسمّى بـ”متلازمة المنحبس”(Locked In Syndrome). تمكّن بفضل تلك العين من التواصل مع المحيطين به، رفّة واحدة لـ”نعم” واثنتان لـ”لا”. بعدها وضعت له اختصاصيّة النطق بالمستشفى أبجديّة جديدة مرتّبة حسب أكثر الحروف استعمالاً في اللّغة الفرنسيّة، تتلى عليه الأبجديّة وحين يصل إلى الحرف المطلوب يرفّ مرّة واحدة بعينه اليسرى، ليكوّن كلمات تعبّر عن حاجاته وطلباته. حتّى قرّر أن يكتب كتاباً يسرد فيه بيوغرافيا حول حياته بجسد غير متحرّك وثقيل مثل بدلة الغوص وروح مرفرفة مثل فراشة تتجوّل به في كلّ مكان. تطلّب ذلك 200000 نبضة جفن حتّى يحرّر “دفاتر رحلة ثابتة” كما يسمّيها. صدر الكتاب يوم 5 آذار/مارس 1997، أي قبل أربعة أيّام من موته. ترجم شوقي برنوصي الرواية إلى اللغة العربية ونشرتها دار النشر مسكيلياني عام 2017