الإرادة

فيلم قدمي اليسرى: النجاة بألوانٍ يشوبها الأسى

خليل سرحيل

تتحرك قدم لتمسك بأصابعها إحدى الأسطوانات الموسيقية وتضعها في الجرامافون، فتنطلق ألحان موزارت بغناء ريتا جوزيف، وتُدار الكاميرا متوقفة عند صاحب القدم، إنه كريستي براون المبدع البريطاني، الذي تحدى إعاقته وشلله الدماغي من خلال كتاباته ولوحاته التي رسمها بقدمه اليسرى التي حملت جسده وروحه إلى آفاق جديدة.

كانت هذه هي اللقطة الأولى من التحفة السينمائية my left foot للمخرج الإيرلندي جيم شيريدان، الذي صدر عام 1989، فأدهش كل من شاهده، وما يزال، بسبب الأداء المتقن الذي قدّمه الممثل دانيال دو لويس لسيرة ذاتية، حقيقية ومدهشة لشخصية واقعية هي كريستي براون، هذا الشاب الذي أصيب بشلل دماغي أثر على ثلاثة من أطرافه، وأبقى له السيطرة فقط على قدمه اليسرى، ليفعل بها العجائب.

الفيلم هو سيرة ذاتية كتبها كريس براون الحقيقي على آلة كاتبة بواسطة قدمه اليسرى، دافعاً المشاهد إلى التأمل والتمعن في حياة كريس بطريقة متسلسلة، بدايةً من مرحلة الولادة المبشرة بالموت المبكر، والطفولة المشاغبة الصعبة التي عاشها بعربة نقل الخضار، والمراهقة الكاشفة التي يدرك فيها مدى اختلافه، حتى النهاية عندما يصبح فناناً مشهوراً ويحب ويتزوج ويعيش حياةً كاملة غنية ومؤثرة بقدم واحدة تتحرك في جسده تغير مصيره لكنها لا تستطيع أن تخرجه من شعور العزلة الذي يأبى أن يبارحه، ليكون الفيلم محاولة لرواية ورسم حياة كريستي وعلاقته القوية بوالدته وبالفن الخاص به الذي يعكس ما بداخله.

“قدمي اليسرى/ My left foot” فيلم أيرلندي من إنتاج عام 1989 الحائز على قرابة 20 جائزة من بينها جائزتي أوسكار، واحدة للبطل الذي قام بدور “كرستي براون” البريطاني المخضرم دانيال دي لويس الحائز وكذلك جائزة الدور الثاني تعود للممثلة الأيرلندية بريندا فريكار التي قامت بدور الأم الداعمة لولدها والتي ساندته في مشواره الطويل.

قصة الحياة هذه تعطينا مثالاً واقعياً عن حياة ذوي الإعاقة في ثلاثينات القرن الماضي فلا مدارس يمكنها احتواء حالات الشلل الدماغي ولا وجود لمنظمات تعنى بها. تذهب بنا الكاميرا لتصور الحياة من عيني كريستي القابع تحت الدرج حيث ينظر إلى الأرجل التي تذهب وتأتي فيما هو أسير جسده الساكن تماماً وعقله المتيقظ الذي يحاول من اللحظة الأولى إثبات وجوده كإنسان كامل وسط رفض الجميع عدا أمه التي تتعامل معه بحب مطلق وتشجيع كامل لأي نشاط يقوم به.

يستولي حب الأم لطفلها على الشاشة، كحب غير شرطي ولا ينتظر المقابل، فيما نجد الأب يشكك بأن عقل ابنه قد يكون متأخراً عن عقل الآخرين. وهنا يحفر المخرج بأعماق النفس الإنسانية فالحب المثالي الذي يشرحه عالم النفس إيريك فروم أو ما يسمى “الطراز البدائي” الذي ذهب إليه يونج، يمكن رؤيته غالباً مع أطفال الإعاقة، فالأمهات تقدم حباً غير مقنن، لا يمكن إحباطه، أما الآباء فهم يبحثون عن جدارة ما يستحق الحب. هذا البحث عن “حب الأب” يعرفه تماماً الأطفال المصابون بالإعاقة، المهددون بأن لا يحصلوا عليه بسبب “عدم استحقاقهم”.

في مرحلة المراهقة نرى رفض الفتيات الصريح للبطل باعتبار أنه قدم متحركة فقط ولا شيء أكثر، فتفقد الأشياء معانيها ويذوب البطل بالعزلة ونكران الذات، فتظهر هذه الفترة محملة بحساسية بالغة من الممثل دانيال دي لويس المراهق الذي أتم لتوه عامه السابع عشر ليقع بعدها بحب من طرف واحد مع طبيبته المعالجة. في تلك اللحظة التي اختبر بها كريس الحب تلقى بعدها أقسى صدمات حياته، صدمه الرفض والنكران والحكم بالوحدة حتى النهاية والجهل بالأنثى والحاجة لها والحاجة بأن يشعر بأنه شخص طبيعي يحق له أن يختبر مشاعره.

لا يتهرب الفلم من محاولة الغوص في علم النفس، هذا الداخل المضطرب للأشخاص ذوي الإعاقة، ليبدو أن محور الفلم هو الإحساس العميق بالذات التي لا تعرف الاعاقة. هذا الداخل المليء بالرغبات والأحلام البسيطة منها كشراء كرسي مدولب، والكبيرة كأن يكون فناناً عظيماً، هذا الداخل المضطرب كان المحرك ليثور البطل على نفسه مراراً وتكراراً، ليدخل في عزلة ويخرج منها بفن قادر أن يعكس أفكاره عن نفسه وعن محيطه الذي ينتبه لوجوده كشخص من ذوي الإعاقة في عائلة إيرلندية فقيرة تقطن في مجتمع سريع الحركة والنمو، فيما الزمن الخاص بالبطل، زمن بطيء مع جغرافية محدودة في الأمتار التي يقضي فيها يومه مع والدته وهو بعمر العشرين ينتهكه إحساس العوز للعلاج والعوز للحب والمشاعر والعوز للحقوق. هذا العوز الذي يتفجر فناً عندما يمسك بالفرشاة ولنعود إلى كل التنظيرات التي تتحدث عن علاقة الفن بالألم، وقدرته على العلاج

حركة الكاميرا مقسومة بين ما يراه البطل وما يراه محيطه. تنتقل الصورة في الفيلم بين المشاعر لتكون تأكيداً لها،، فهي حادة عندما تستعرض الأب وحالمة عندما تغدق لنا من حب الأم، ومضطربة عندما تصور البطل. اعتمد المخرج على الكوادر الضيقة والمضغوطة للدخول بالأعماق المعقدة لعالم البطل تتغير مع تصاعد الأحداث ونشاهد لقطات عامة تبشر بالانفراجات التي ستأتي.

الضيق يبدأ في الافتتاحية التي تأخذ لقطة قريبة من القدم اليسرى التي تضع شريط موسيقي في الجهاز ببراعة وتنتهي بكأس مع محبوبته على إطلالة واسعة للغاية على مدينة دبلن لتتوج تجربة كريستي بروان الذي شق طريقه بصعوبة كبيرة كي يكون ما كانه: كاتب ورسام ومبدع.

لطالما كان الفن هو المنفذ للنجاة الفن الذي يمثل فضاءً واسعاً لا يرى الإعاقة كشيء منبوذ أو غريب كما تراه بعض المجتمعات ولا يعترف بحدود أو جنسيات أو حتى أعراق. هذا الفن الذي كان السبب في حصول الكثير من ذوي الإعاقة على نجاتهم ومنحهم القدرة على التعبير وإيصال أفكارهم بطريقة فنية تلامس المشاعر ولا شيء غير ذلك. أشخاص أمثال بطلنا اليوم كريستي براون والعالم ستيفن هوكينغ والرسامة فريدا كاهلو وغيرهم الكثير من ذوي الإعاقة على امتداد العالم الذي نعرفه يحاولون كل يوم تغيير واقعهم الخاص وخلق واقع أفضل.

الرواية الأصلية

رواية قدمي اليسرى صدرت عام 1954، كسيرة ذاتية للكاتب الإيرلندي كريستي براون، عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره، وكان قد كتبها قبل ذلك التاريخ بسنوات مما يدل على عبقرية مبكرة. وهي عمل براون الأول، ويمكن أن نقول أنه كتبها للاستشفاء، لتتحوَّل إلى فيلم سينمائي بعد خمسة وثلاثين عاماً نال العديد من الجوائز وأصبح من كلاسيكيات السينما العالمية ولكن للرواية طعم آخر و تفاصيل أعمق.

ترجمت الرواية إلى 14 لغة وباعت ملايين النسخ، وترجمها خالد الغنامي إلى العربية.

إنها قصة عقل عبقري استيقظ على الحياة ليجد أنه يقبع في جسد يرتعش دون إرادته وكيف مرت سنوات طويلة والجميع يعتقد أنه مشلول كلية، حتى جاءت اللحظة التي أعلنت فيه قدمه اليسرى عن حياتها بأن كتبت حرفاً بطبشور أمام دهشة أفراد أسرته. هذا الاكتشاف بأن جزءاً من جسده يتحرك تنطلق به إلى عالم الأمل والشعور بالقيمة والجدوى. هذه القدم كانت بطلة الرواية الثانية، أما البطلة الأولى فهي الأم.