خليل سرحيل
يستكشف فيلم “المنبوذون” الصداقة الرائعة وغير المتوقعة بين شخصين من خلفيات مختلفة إلى حد كبير، ويتطرق إلى موضوعات الإعاقة والتواصل الإنساني والقوة الاستثنائية للصداقة. صدر الفيلم بعنوانين (المنبوذون- غير الملموس) في محاولة من المخرجين لوصفه أو تعريف الجماهير بهذه القصة الحقيقية التي حدثت في فرنسا ولا يزال أبطالها على قيد الحياة حتى اليوم.
قصة عالمين
في بلد واحد وهو فرنسا بلد الثراء وحلم المهاجرين، ومن عالمين مختلفين وطبقتين من المستحيل إيجاد قواسم مشتركة بينهما، يعرّفنا الفيلم على فيليب الهادئ الأرستقراطي الثري المصاب بالشلل الرباعي بعد تعرضه لحادث طيران بالمظلات. إنه يعيش حياة متميزة ولديه قصر يحسد عليه ومجموعة من مقدمي الرعاية تحت تصرفه. وفي تناقض صارخ، فإن إدريس، وهو سجين سابق من حي مضطرب، يكافح من أجل تغطية نفقاته وهو في حاجة ماسة إلى وظيفة. عندما يتقدم “إدريس” لشغل منصب مقدم رعاية “فيليب”، يتصادم عالماهما.
الملياردير فيليب عاشق للموسيقى الكلاسيكية، يعيش حياة تقليدية وتأهيلية بسبب إعاقته الحديثة ويتعامل معها في حالة من البحث عما هو جديد أو ما ينقصه للإحساس بنفسه من جديد، بعد أن أصابه الملل من التعامل مع الأطباء والمعالجين بصيغتهم الجامدة في تقديم الرعاية له بطريقة تقليدية. إدريس القادم من أفريقيا بلد الفقر والمعاناة كما هو مألوف والذي يسكن في الأحياء الفقيرة في ضواحي باريس وهو من أصحاب البشرة السمراء جامح يحب الرقص والنساء والمخدرات والموسيقى الصاخبة.
يوضح الفيلم بشكل جميل التناقض الصارخ بين حياة الشخصيتين وخلفيتيهما، ويسلط الضوء على الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الموجودة. إعاقة فيليب دفعته إلى العيش في برج عاجي من الراحة، بينما يقع إدريس، رغم قدراته البدنية، في دائرة من الفقر والحرمان الاجتماعي. ومع ذلك، تصبح اختلافاتهم مصدر قوتهم مع ازدهار صداقتهم.
في الفيلم تدمج صراعات الأبطال فيليب وإدريس وهي صراعات خاصة بين كل شخص ونفسه وصراعات غير متشابهة صراع فيليب في الحياة الجديدة والبحث عن الحب والتعامل مع إعاقته الحديثة بشكل لا وجود للطبابة والمرافق الطبية فيه، وهو ما وجده متأصلا في شخصية إدريس في صيغة بدائية عززت اختياره له في محاولة بائسة للخروج عما هو مألوف ومعتاد. وصراع إدريس بين حاجته للمال والعمل ورغبته بالحياة كما يعيش الأثرياء وبين وضعه الخاص مع عائلته ومستقبله المجهول، بعد أن أصبح فرنسياً يحاول التمدن والنجاح.
فيلم المنبوذون أو غير الملموس هو فيلم فرنسي صدر عام 2011 من كتابة وإخراج مشترك بين أريك توليدانو وأوليفر تاكاشي وتمثيل عمر سي وفرانس كلوديت حاز الفيلم على العديد من الجوائز وحقق الكثير من الأرباح وتم التبرع بنسبة 5 % من الأرباح لمؤسسة simon de cyrene لمساعدة الأشخاص المشلولين.
قوة الصداقة
إن “The Intouchables” في جوهره هي قصة صداقة والأثر العميق الذي يمكن أن تحدثه. يشكل فيليب وإدريس رابطة غير تقليدية ولكن عميقة. صداقتهم تتجاوز الحدود المجتمعية. يصبح عالم فيليب أكثر حيوية، مليئًا بالضحك والمغامرة، وذلك بفضل وجود إدريس، بينما يجد إدريس الهدف والشعور بالانتماء في رعاية فيليب.
تعود بنا الأحداث إلى البداية بداية الصراعات والصداقة وبداية الفصل الجديد الذي سيأخذ الجميع لواقع مغاير عما هو متوقع.
يسرق إدريس بيضة ذهبية من بيت فيليب عندما ذهب إليه للحصول على توقيعه، وبدلاً من الحصول على التوقيع، يقبله فيليب كموظف لرعايته اليومية لمدة شهر، كاختبار، ربما من أجل إعادة البيضة الذهبية أو لأنه يريد عناية من نوع آخر لا يعرف الطب الجامد تقديمها، ويوافق إدريس بعد أن رأى الجناح الذي سيقيم به.
لم يستطع إدريس النظر إلى فيليب على أنه يعاني من شلل في كامل جسده ولا الأخذ بالاعتبار الكرسي المتحرك ووزنها الثقيل، بل كان التعامل بينهما خالياً من أي علاقة طبية ولا يمكن تعريفه على أنه مرافق صحي، بل على العكس حيث يعرض إدريس على فيليب تدخين المخدرات في محاولة لتجربة أشياء جديدة، أشياء يسعى فيليب لاختبارها، والإحساس بها في داخله بطريقة لا علاقة للطب والشلل بها وهو ما كان موجوداً في شخصية إدريس المهاجر، الذي لربما اعتبر أن إعاقة فيليب وكرسيه المتحرك ليس سوى خلل بسيط للغاية لا يمنع من الحياة مقارنة بما هو موجود من مآس في أفريقيا حيث عاش طفولته.
كل الأحداث تجري في طابع كوميدي يدخل من فوارق الشخصيات ويعود سببه إلى أنهما من طبقتين يستحيل أن تلتقيا فلا رابط بين الموسيقى الكلاسيكية والراب وبين الثقافة والجهل وبين الثراء الفاحش والفقر المدقع وبين الجسد الجامح والسريع والجسد الآخر الذي يعاني بشكل يومي كي ينجو وفي سؤال مخفي عن ماهية النجاة وهل هي النجاة بالجسد فقط أم أن للنجاة أبعاداً أخرى.
وبعدها تبدأ حياتهم وتجاربهم تزداد وتتكاثف، لتأتي الذروة برحيل إدريس لحياته ومصائبه الخاصة ويترك فيليب في قصره وحيداً يعاني مجدداً من مقدمي الرعاية الطبية وأصحاب السراويل البيضاء، وخلال هذه الفترة يبدأ المشاهد معرفة الشيء غير الملموس الذي كان سبباً في تسمية الفيلم وهو الإنسان والصداقة ويلتمس أسباب هجرة الأرواح إلى أشباهها، وعن الإنسان الطبيعي والإنسان صاحب الإعاقة وعن شكل العلاقة بينهما.
وهكذا يكتب فصل جديد عند عودة إدريس الطارئة لإنقاذ فيليب من الممرضين والأطباء وهي عودة للبقاء وهنا يبدأ الأصدقاء برد الجميل لبعضهما حيث يقدم فيليب المال أما إدريس فكان سبباً لزواج فيليب وإنجابه لطفلين بعد أن كان قد تبنى طفلة وفقد الأمل بالحب والزواج.
حركة الكاميرا سريعة ومتحركة استخدم المخرجان لقطات طويلة ترافق سيارة الأبطال مع الموسيقى التصويرية المذهلة وعزز الفوارق في لون الفيلم بين الضواحي الثرية الدافئة وبرد المجمعات السكنية في الضواحي في محاولة للتأكيد أن الفوارق موجودة لكن القواسم المشتركة في طريقها للولادة أيضا.
خلق الموسيقار الإيطالي لودفيغو اينوديو تحفة فنية خالدة وحقيقية واستطاع نقل الإحساس غير الملموس في موسيقى تشبه السيل الهادئ والجارف المليئة بالمشاعر كالأمل والفقد من خلال رؤيته الخاصة في التعبير عن هوية الفيلم والسؤال الأخلاقي الذي يعالجه ويطرحه الفيلم.
كسر الصور النمطية
“المنبوذون” يبتعد عن الصور النمطية التقليدية حول الإعاقة. تتحدى شخصية فيليب فكرة أن الأشخاص ذوي الإعاقة عاجزون أو بحاجة إلى الشفقة. تم تصويره على أنه شخص قوي الإرادة وذكي يحافظ على حماسه للحياة على الرغم من قيوده الجسدية. تعد شخصيته بمثابة تذكير بأن الإعاقة لا تحدد قيمة الشخص أو قدرته على تجربة الفرح.
من ناحية أخرى، يتحدى إدريس الصور النمطية عن مقدمي الرعاية. إنه في البداية غير مهتم بالمنصب ولا يتقدم للوظيفة إلا للوفاء بمتطلبات مزايا الرعاية الاجتماعية. ومع ذلك، مع تقدم الفيلم، تتطور شخصية إدريس. إنه يتعلم كيفية تقديم الرعاية بتعاطف وحب حقيقيين، مما يوضح أن مقدمي الرعاية ليسوا موجودين فقط لتلبية الاحتياجات الجسدية ولكن يمكنهم أيضًا تقديم الدعم العاطفي والرفقة..
فيلم “المنبوذون” يحارب التمييز والنظرة المسبقة ويهرب بالإعاقة إلى الأمام نحو الحياة، متسلحاً بالصداقة والإنسانية وحب الحياة والآخر من غير كراس مدولبة أو تصنيف حسب لون البشرة والحالة المادية إنه فيلم يعود بالقضايا إلى أصلها، ومن هذه الأصالة يبني وينطلق نحو المستقبل. المستقبل الذي لن يكون حكراً على أحد ولا يمكن لأحد تحقيقه وهو وحيد.