خليل سرحيل
في نظرة متعمقة تختبر الصراع اليومي الذي يعيشه الجنود السابقون، يروي فلم الرجال قصة إنسانية تحدث كل يوم من حولنا وتحتاج فقط من يمعن النظر إليها… ويرى ما لا يحكى.
يتحدث الفيلم عن الإعاقة الناجمة عن الحروب وتبعاتها المختلفة جسدية كانت أم نفسية في محاولة للتعرف على ماهية الإعاقة وعلاجها والتعامل معها بعد الحروب عندما تبدأ الكراسي المدولبة بالتكاثر في شوارع المدن وتصبح الإعاقة حقيقة يومية.
الفيلم المنتج عام 1950، أصبح يؤرخ في هوليوود لما يعرف بدراما ما بعد الحرب. يكمن الإنجاز الرئيسي لـ”الرجال” في بساطته وبلاغته في التعامل مع قضية صعبة وحساسة لا تخص الإعاقة فقط، بل مفهوم الرجولة. ويُنسب إلى هذا الفلم المساعدة في تغيير المواقف الاجتماعية وحتى القانونية تجاه الجنود السابقين الذين أصيبوا بإعاقة نتيجة الحرب.
فلم الرجال “The men”، من إخراج فرد زينمان ويمثل أول ظهور للممثل مارلون براندو، الذي يلعب دور “كين” وهو رياضي سابق، وجندي يصاب برصاصة في الظهر خلال الحرب العالمية الثانية. فيصبح غير قادر على تحريك نصفه السفلي. يقضي “كين” وقته في المستشفى غارقًا في الشفقة على نفسه، ويدفع خطيبته، إيلين (تيريزا رايت)، بعيداً عنه. يأمل طبيبه، الدكتور بروك (إيفريت سلون) أنه من خلال تقريب كين من المصابين بشلل نصفي، يمكن مساعدته في العثور على فرصة جديدة للحياة..
لحضور النسخة المترجمة للغة العربية اضغط هنا
للتحضير لدور كين، عاش مارلون فعلياً في مستشفى الجيش لمدة شهر كمريض، مستخدماً كرسياً متحركاً وخضع للعلاج وقضى كثيراً من الوقت مع المرضى الحقيقيين المصابين بالشلل النصفي. ظل براندو على كرسيه المتحرك داخل وخارج التصوير. وعبر عن قناعته لاحقاً بالقول “من المستحيل أن تدرك مثل هذا الإحباط الرهيب واليأس إلا إذا كنت تعيش على هذا النحو، عاجزاً وفاقداً للأمل”.
وللحصول على الدقة والشعور الحقيقيين في القصة، صور المخرج كثيراً من المشاهد في مستشفى برمنغهام للمحاربين القدامى في كاليفورنيا. واستعان بمرضى حقيقيين كممثلين داعمين (كومبارس) حيث وافق حوالي 45 من المرضى الحقيقيين على الظهور في الفيلم.
في مشقى يعج بذوي الإعاقة يحاول كل من الطبيب والبطل المعوق البحث عن الأجوبة والحلول، طبية كانت أم نفسية، ويظهر في سياق الفيلم مدى حداثة مفهوم التأهيل الذي يجب أن يناله المعوق طبياً ونفسياً، فلا إجابات طبية يمكن العثور عليها فيما كان علم الأعصاب لا يزال في مراحل تطوره الأولى وحتى مجال التأهيل النفسي أيضاً.
يأتي علاج قضايا ذوي الإعاقة في الفلم عن طريق البطل الذي مضى على صراعه مع التأهيل في المشافي ثلاث سنوات. الضابط، مارلون براندو يدمن المسكنات ولا يتحرك من سريره وقد قطع كل علاقاته بالخارج بمن فيهم حبيبته، بعد أن فقد الحركة والإحساس بقدميه، يعاني من الاكتئاب المزمن، وكره للذات. هنا يأتي دور التأهيل الطبي والنفسي ليقدم لنا الفيلم مثالاً واضحاً عن الثورة التي يمكن للشخص المعوق أن يقوم بها لينجو بواقع أفضل لنفسه، فنرى البطل يحاول التدرب والعلاج لتسريع خروجه من المشفى وليتزوج من حبيبته القديمة، لكن يحدث ما هو غير متوقع يجعله يرفض مغادرة المشفى من جديد، ونرى تدخل المجلس الذي أسسه المعوقون أنفسهم ليجبروا البطل على مغادرة المشفى ومواجهة حياته في محاولة ثانية قد تعيد له القليل مما كان يريد أن يعيشه لولا إعاقته.
إن الجهل في الإعاقة ليس فقط من جهة المعوقين أنفسهم، بل في محيطهم عائلة كانت أم مجتمعاً أم أصدقاء. هذا المحيط نال معالجته في الفيلم أيضاً من وجهة محايدة وحقيقية ووضع تحت المحاكمة.
يضفي المخرج أسلوباً وثائقياً أصيلاً على التفاصيل المرئية ولحظات الصمت المعبأة بالأسئلة، الشك والألم. حيث الصورة في الفلم قريبة ومباشرة تجبر المشاهد على التركيز في حالة الكراسي المدولبة ومن يجلس عليها باعتبارها امتداداً له أو حتى العكس أحياناً. يأتي السناريو والحوار وطرح القضية من وجهة نظر محايدة قدر الإمكان في سياق يفهمه ذوو الإعاقة أنفسهم قبل الجمهور الآخر، وتحضر الموسيقى بأسلوب لطيف يحمل الأمل من غير أن يضعه حتى النهاية عندما يجتاز البطل مع زوجته درجاً صغيراً إلى المستقبل في نهاية ساحرة من نهايات هوليوود.
كان الفلم المنتج قبل أكثر من سبعين عاماً محاولة لخلق حوار عن الإعاقة واستكشاف دور المجتمع والحكومات والقوانين، وهو ما حصل في أمريكا عندما ثار ذوو الإعاقة لتغيير حياتهم، والمطالبة بحقوقهم. هذا الوعي هو من قام بتغيير حياة وواقع ذوي الإعاقة في الدول المتقدمة باعتبار حقوق الإنسان شيئاً مقدساً، وحقوق ذوي الإعاقة هي جزء لا يتجزأ من شرعة حقوق الإنسان العالمية. هذا الوعي النابع من ذوي الإعاقة أنفسهم، والذي نحاول دائماً الحصول عليه لنتمكن من تغيير واقعنا، إنه وعي بالحياة وإرادة الحياة لعيشها كما يجب.