إعداد: عبد الكريم عمرين
الابن السيىء, فيلم غطفان غنوم الذي استهلك عشر سنوات من العمل فيه مع كاتبة السيناريو للفيلم وفاء أحمد, هو فيلم وثائقي كما اتفق النقاد والحضور من مثقفين وفنانين على تسميته. تكمن الصعوبة الهائلة التي واجهها غطفان غنوم كمخرج في تناوله للمسألة السورية بين عامي 1970- 2024, في غياب الحبكة الدرامية, وحضور الوثائق النصية والبصرية, أقول صعوبة هائلة لأن غطفان أراد أن يحكي للعالم مأساته الشخصية مدمجة بمأساة سوريا والسوريين, أراد أن يخاطب العالم الذي سكت طويلاً على جرائم نظام الاستبداد الأسدي, وأن يوضح ويدفع بدعاية النظام التي كانت تسعى لطمس الحقيقة على المنصات الدولية والإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي ومن ورائها أجهزة الاستخبارات العالمية والإقليمية واستخبارات النظام.
إن القوة الدافعة الإبداعية لفيلم الابن السيىء, تكمن في البنية العاطفية للفيلم, فيلم يستمر لساعتين ونصف, لا يتوقف لحظة واحدة عن حضور بنية غطفان العاطفية وعن موقفه الإنساني, بنية محمَّلة بالسياسة والثقافة والمعرفة, والحقيقة العارية تماماً, دون عوامل الجذب واللعب السينمائي من ملابس وديكورات وإضاءة وموسيقى مكتوبة بعناية خاصة, وصوت محسوب في الاستديو, ودون طرق فرعية للسرد الفيلمي, دون استعارات ورموز وظواهر صوتية مفتعلة, لم يكن يملك غطفان إلا إيمانه القوي ونظرته الثاقبة كمخرج ومعرفة الدور الخلاق للكاميرا, إيمانه بالعدالة وبسوريته مستنداً على أرض عمرها آلاف السنين مهد الحضارات, ولد فيها وعاش, وحلمه في أن يساهم بخلق عالم أجمل وأعدل في حاضرها ومستقبلها.

غطفان غنوم أراد أن يتابع إسهامه في صنع الثورة السورية خارج البلاد بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت في الداخل وصار مطلوباً للأمن السوري, كيف لا وهو ابن حي بابا عمرو الملتهب قوة وبأساً في معارضته للأسد الابن, والذي لم تهدأ فيه المظاهرات, حتى لجأ النظام إلى تدمير الجزء الأعظم من الحي, وقتل الكثيرين من سكانه ولجوء بعضهم إلى الخارج, نزوحاً أو هجرة أو لجوءاً سياسياً, لهذا لجأ غطفان كمعارض وصحفي سابق ومخرج إلى انتاج فيلم أراده ملحمة, ووثيقة للأجيال, وخرج الفيلم إلى النور قبل انتصار الثورة بشهور قليلة, بعكس ما حصل في كمبوديا, والتي حكمها الأخ رقم واحد بول بوت بنظام استبدادي عنيف جداً, وحول كل المدارس إلى معتقلات, وأشهرها مركز الاعتقال أس 21 والذي حوى 17000 معتقل، لم ينج منهم سوى 7 أشخاص, ثم تحول إلى متحف للاعتقال والتعذيب, لم يظهر أي فيلم, كما كتبت آية الأتاسي في القدس العربي بتاريخ 12/شباط/2025 , عن زيارتها لكمبوديا بعنوان: “بشار الأسد في كمبوديا: حين تصبح المجازر متاحف للذاكرة”:
“أطفال الماضي في كمبوديا، صاروا اليوم شهوداً وحراساً للذاكرة، يتذكرون كي لا ينسى العالم. وهكذا بعد انتهاء فيلم الرعب الطويل في كمبوديا، أتى زمن صناعة أفلام الضحايا. كحال المخرج ريثي بانه، الذي فقد كامل عائلته في زمن الخمير، ولكنه استطاع بعد أكثر من ثلاثين سنة صناعة فيلمه الشهير «الصورة المفقودة»، ولأنه لم يستطع العثور على صور شخصية للعائلة، لجأ إلى الطين كي يعيد تشكيل وجوههم مستعيناً بالذاكرة، ورويداً رويداً بدأت الحياة تدب في دمى الطين، وعاد بانه طفلاً يملأ بالطين ثقوب الذاكرة المفقودة. وكأن الصورة المفقودة التي محاها الاستبداد، عادت لتزهر كاللوتس من قلب الطمي.”

لابن السيء فيلم يوثق للحقبة الأسدية, منذ تسلم زمام السلطة في البلاد حافظ الأسد, لا بل يمتد إلى توثيق بداية حكم البعث في سورية, ويركز على الأساليب والإجراءات التي اتبعها الأسد الأب ليكون ديكتاتور سورية بلا منازع عن طريق التغول الأمني والقمع والبناء العقائدي للناس منذ طفولتهم فيفاعتهم وشبابهم ورجولتهم, عن طريق تشكيلات كمنظمة الطلائع والشبيبة ونظام التدريب الجامعي, مبدياً إعجابه بالنموذجين الكوري الشمالي والروماني. بيد أن غنوم لا يكتفي بتوثيق ممارسة الأب لسلطته الظالمة, بل يوثق لتطوره الشخصي, باعتباره معارضاً بالفطرة, كفصله من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق, ومعارضة أغلب أقرباءه, والده مثلاً, ثم أقرباءه من الضباط الذين أعلنوا انشقاقهم عن النظام بعد قيام الثورة, وحتى زواجه من ابنة ثائر من منطقة الأهواز في إيران, يؤكد غطفان أن هذا الزواج, هو زواج يدل على الانتماء والطهر.
فيلم الابن السيء وثيقة هامة للأجيال القادمة, ستكون درساً, ربما, للمستبدين الجدد إن وجدوا في قادم الأيام في كل بقاع الأرض, وستكون دليلاً لثوار المستقبل, على أن لا شيء يدوم ولكل ظالم نهاية, وسيمنح الفيلم الأمل للناس ويشحنهم بطاقة إيجابية ليتعتق الإيمان أن النصر قريب, نصر الشرفاء والأحرار… أخيراً ننوه أن الفيلم يشكو من بعض الإطالة, فثمة فصول يمكن حذفها كفصل, سقوط شاه إيران, أو فصل صعود الخميني للسلطة والتحولات التي أحدثها حكم الملالي في المجتمع الإيراني.