الإرادة

عمر أميرالاي في كاميرا هالة العبد الله: الصداقة كعدسة للذاكرة والمقاومة

خليل سرحيل

بعد صداقة تجاوزت ثلاثين عامًا، تمكنت المخرجة السورية هالة العبد الله من اختراق العوالم الداخلية لزميلها المخرج عمر أميرالاي. أعمال أميرالاي، حتى يومنا هذا، شهادة على قوة السينما التسجيلية في النقد، المقاومة، الالتزام السياسي، ومحاربة الفساد. مستخدمة عدسة حميمة، بدأت العبد الله تصوير فيلمها عنه عام 2009، متجاوزة التصورات العامة لتكشف عن إنسانيته العميقة، مقدمة لنا صورة لمخرج استثنائي، مبدعٍ أعمالًا مثل “طوفان في بلاد البعث”، “هناك أشياء كثيرة للتحدث عنها”، و”فيلم الدجاج”.

لقد نبشت هالة العبد الله في ذاكرتها الخاصة لتعرّفنا على عمر أميرالاي كما عرفته هي، لا كما سمعنا عنه. في إنسانيته المفرطة، وفي علاقته العميقة بالمجتمع الذي حمل قضيته عبر أفلامه، وفي رعايته لوالدته المصابة بالزهايمر، التي عاد من أجلها من فرنسا عند اشتداد مرضها. يعكس الفيلم ببراعة التوتر بين حياة المخرج الفنية وواقعه الشخصي. وبين العودة إلى الرحم في منزل والدته أو في مكتبه كانت مقابلات هالة العبد الله تتنقل بين الحياة الداخلية لعمر وبين آرائه السياسية والثقافية والمجتمعية عبر ستارة كاشفة توحي بالحنين.

زملاء المقاومة، المعتقل، والمنفى

في بداياته الفنية، وبعد خيبته من سلطة البعث إثر تصوير فيلم “محاولة عن سد الفرات” عام 1970، الذي أذهله بجمال الحداثة والمكننة، تغير مسار عمر أميرالاي. تحولت رؤيته ليصبح فنه أداة لتعرية نظام البعث. كان فيلمه “الحياة اليومية في قرية سورية” عام 1974 محوريًا، حيث أظهر بوضوح الأثر السلبي لبناء السد على حياة الناس. منذ ذلك الحين، فُرض التضييق والرقابة على عمر وهالة، وغيرهم الكثير من الفنانين السوريين، ووصل الأمر أحيانًا إلى الاعتقال.

أدرك نظام الأسدين جيدًا قدرة السينما التسجيلية على كشف الكذب وتعرية الأنظمة الاستبدادية، وقدرتها على خلق تهديد حقيقي. أميرلاي أدرك الدور القوي للكاميرا كسلاح سياسي. هذا ليس مجرد تسجيل للأحداث، بل هو تحدٍ مباشرٌ للروايات الرسمية. هذا التهديد تحول إلى حقيقة لم يعش عمر أميرالاي ليراها مجسدة، لكنه ربما تنبأ بها ودعا إليها عبر فنه: سقوط النظام. هالة العبد الله أخبرته بذلك، فقد شاركتنا قصتها وموقفها السياسي، وهي التي أخرجت عدة أعمال تفضح النظام الديكتاتوري وتكشف آلته التي لا تميز في العنف. قبل الثورة، أخرجت هالة أفلامًا تنتقد النظام، مثل فيلم “أنا التي حملت الزهور إلى قبرها” (2006)، وبعدها مثل فيلم “محاصر مثلي” (2016) الذي يتناول حياة المثقف السوري فاروق مردم بك الذي عاش في المنفى منذ عام 1975. وآخر أعمالها هو فيلم “عمر أميرالاي: الحزن والزمن والصمت” (2021).

الأسلوب السينمائي: وثائقي وتجريبي

استخدمت المخرجة هالة العبد الله في فيلمها أسلوبًا سينمائياً فريداً يجمع بين الوثائقي والتجريبي. تتداخل المشاهد الأرشيفية ببراعة مع الحوارات المعاصرة، ليخلق هذا الأسلوب توتراً ديناميكياً بين الماضي والحاضر، مما يعكس الطبيعة المستمرة للصراع بين النظام والمقاومة. الذاكرة في الفيلم ليست مجرد أداة سردية، بل هي عمل سياسي حيث يصبح استحضار الحنين شكلاً من أشكال المقاومة ضد النسيان.

ينسج الفيلم ببراعة خيوطًا سردية متعددة. في جوهره، تكمن الصداقة العميقة بين العبد الله وأميرالاي، والتي تمنح الفيلم حميميته وأصالته الفريدة. وينقل للمشاهد شعوراً عميقاً بالحنين والفقد، خاصة عندما تزور هالة منزل عمر في باريس.

أما استخدام الكاميرا بيد هالة الحرة، فيعكس العلاقة الخاصة بينها وبين أميرالاي، لتصبح الكاميرا وسيلة للبوح، بوحٍ صافٍ عن ذكريات مضت كبحتها الحياة، ثم نبشتها هالة أمامنا. تتداخل الموسيقى كشذرات عشوائية لكنها حرة، وأصوات العاصمة دمشق لا تتوقف، كما قال عمر إن دمشق “ورشة عمل مستمرة”. تتغير ديناميكية الفيلم عندما تبدأ صحة والدة أميرالاي بالتراجع، وهنا يتحدث عمر أميرالاي عن والدته وعن مشاعره الحقيقية تجاهها والتزامه برعايتها.

لقد سعت هالة العبد الله في هذا الفيلم إلى تقديم صورة شاملة عن عمر أميرالاي، لا تقتصر على كونه مخرجاً فنياً، بل تبرز إنسانيته وتتجلى في علاقته مع والدته. يظهر الفيلم أن العائلة والأصدقاء يلعبون دوراً كبيراً في تشكيل الهوية الفنية، وكيف يمكن لهذه العلاقات أن تكون مصدر إلهام وألم في آن واحد. إنها علاقات تستمر بالحياة حتى بعد موت أصحابها، حيث تبقى فنونهم حاضرة في ذاكرة محبيهم وحية في ضمير الشعب.

عمر اميرلاي عراب السينما التسجيلية السورية

وثيقة هامة عن مخرج استثنائي

فيلم هالة العبد الله عن أميرالاي ليس مجرد تكريم، بل استمرارية لإرث سينمائي وسياسي مشترك. كما أن الفيلم يتجاوز وصفه كعمل فني، بل هو وثيقة هامة عن مخرج استثنائي فنه متشابك بعمق مع المصير السياسي لأمته. نقلتنا العبد الله في الفيلم عبر ذاكرتها إلى الماضي، حيث كانت المقاومة فعلاً يومياً لا يقل أهمية عن النجاة. إنه عمل يؤكد أن الفن، وخاصة السينما التسجيلية، يبقى قوة لا يستهان بها في كشف الحقائق وصون الذاكرة، مهما بلغت شراسة الظروف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *